محمد فرج يكتب | عالم ما بعد الصراع الروسي الأوكراني

1

هل يظل العالم بعد العملية الروسية في أوكرانيا كما كان قبلها؟ هذا هو السؤال الذي أصبح مطروحاً بقوة في الملتقيات والمنتديات والندوات السياسية، وعلى جدول أعمال الدول والتكتلات والمنظمات الفكرية والاقتصادية والسياسية الإقليمية والدولية.
من أهم الأفكار المطروحة تلك التي تذهب إلى أن عالماً جديداً توشك ملامحه أن تتبلور في المستقبل القريب، فالعالم الذي نشأ منذ بداية و منتصف تسعينيات القرن الماضي، بعد هدم جدار برلين وانهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي وتفكك حلف وارسو، وهيمنة (قطب واحد) على العالم بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية يوشك أن يتغير، وعالمٌ جديدٌ (متعدد الأقطاب) يوشك أن يتكون ويتبلور بتأثير عوامل كثيرة.
نستطيع القول أن القرن الحادي والعشرين قد لا يستمر قرناً أمريكياً تنفرد فيه الولايات المتحدة بالهيمنة على العالم كقطب دولي وحيد ومنفرد، كما كان يتصور خبراء الاستراتيجية الأمريكية.
فلم تفلح نظريات الفوضى الخلاقة، وصراع الحضارات، ونهاية التاريخ في إثبات جدارتها في الممارسة، ولم تتمكن دعوات وعمليات التدخل لتغيير النظم تحت شعار نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان ومواجهة الدول المارقة من بناء نظم ديمقراطية جديدة، ولم تنجح نظريات التبشير بانتهاء عصر الحروب والمستعمرات والتدخلات العسكرية ونظريات بدء عصر السلام والوئام الدولي، والعلاقات الأخوية والإنسانية التي بشر بها قادة العولمة الرأسمالية، لم تنجح تلك النظريات في وقف الحروب وحماية استقلال وسيادة الدول، بل ساهمت في اندلاع العديد من الحروب الإقليمية، والتدخلات الدولية، وتفاقمت عمليات العقوبات السياسية والحروب الاقتصادية، وظهر سلاح الحصار الاقتصادي للدول بما فاقم من عمليات الإفقار لكثير من شعوب البلدان النامية ومحاصرة تطورها السياسي ونموها الاقتصادي.
أسفرت الفوضى الخلاقة وعمليات التدخل وتفكيك الدول عن إضعاف الكثير من الدول الوطنية، وتفكيك قبضة بعضها، وهدم الكثير منها، ودعم الصراعات الطائفية والعرقية والدينية بين مكوناتها الاجتماعية، وتكوين الجماعات والكيانات التي تمارس العنف والتطرف والإرهاب باسم الدين في الصراعات السياسية المحلية والإقليمية والدولية، وقد ساعد ذلك – مع عوامل كثيرة ومتنوعة – في تنامي وتفاقم ظواهر الإرهاب العابر للدول الوطنية، وانتشار جماعاتها وفرقها التي تمارس الإرهاب باسم الدين.
لم تسفر هذه الفوضى الخلاقة في إعادة هندسة دول العالم، وإعادة رسم خرائطها، عن نجاح مخطط استمرار هيمنة قطب واحد على العالم، بل صمدت الكثير من الدول الوطنية في منطقتنا العربية والعالم، وظهرت عدة أقطاب اقتصادية وسياسية إقليمية ودولية، ولم تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من إعادة هندسة العالم ورسم خرائطه لصالح انفرادها بالهيمنة كقطب واحد وحيد.
في ظل هذا الوضع الجديد، وفي ظل بزوغ ظواهر الدول الوطنية التي نجحت في الصمود وحماية وجودها وأمنها القومي، وظواهر بزوغ الأقطاب الإقليمية والدولية الجديدة، فضلاً عن تنامي ظاهرة الأزمة الاقتصادية العالمية الناتجة عن جائحة كورونا، وتداعيات ظاهرة الركود التضخمي التي تجتاح العالم، اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية.
دون التوغل في إعادة طرح الأسباب خلف اندلاع هذه الحرب، أو العملية العسكرية كما يسميها الرئيس الروسي بوتين، فقد تبلورت بسرعة لتصبح حرباً عسكرية اقتصادية دولية، روسية / غربية أمريكية.
كما أن الحرب هي امتداد للسياسة ولكن بوسائل عنيفة، فإن نتائج وتداعيات الحروب في اتجاهاتها العامة تكون امتداداً للتكتلات والأوضاع التي كانت موجودة قبلها، ولكن في تفاعل مع علاقات القوى الجديدة التي تتبلور مع العمليات العسكرية.
ترجمة لهذه المقولات السياسية والإستراتيجية، فإن علاقات القوى الجديدة بعد أن تسكت المدافع سوف تكون موزعة بمقادير، وداعمة بشكل أساسي، لتلك الأقطاب التي كانت بازغة وفاعلة قبل الحرب وأثنائها.
لعل النتيجة الأساسية – والعامة – لاندلاع الحرب الروسية الأوكرانية الغربية، هي تعميق وتدعيم ظاهرة تعدد الأقطاب، وإعلان وفاة ظاهرة هيمنة القطب الواحد.
مع انطلاق عدة ظواهر جديدة من أهمها، تحرير ألمانيا من عقدة الحرب العالمية الثانية، وانتهاء ظاهرة الدولة الألمانية منزوعة السلاح.
الانتقال العملي نحو الإقرار بضرورة بناء قوات مسلحة لحلف الناتو، وانتهاء عصر اعتماد الحلف على القوة العسكرية الأمريكية.
كما أدى النزاع الروسي/ الأوكراني إلى تماسك الاتحاد الأوروبي وظهوره كقطب فاعل بقيادة ألمانية فرنسية متقاربة مع البيت الأبيض، فإن هذا التماسك والتوحد والعسكرة قد تذهب بحلف الناتو بعيداً عن القطب الأمريكي، وقد يكون هذا التماسك الوحدوي الأوروبي مرحلياً ومؤقتاً، سرعان ما قد ينهار – بعد فترة من سكوت المدافع – لصالح ظهور قطبين أوروبيين، ألماني وفرنسي.
كما أن تعمق وتفاقم الخلافات الروسية الغربية جراء الحصار الاقتصادي، قد تؤدي إلى تعميق ظاهرة وجود روسياً كقطب عسكري شرقي فاعل في مواجهة مع دول أوروبا المعادية، كما أن فقد روسيا لكثير من مناطق السوق الأوروبية، سوف تؤدي إلى توجهها شرقاً بحثاً عن أسواق جديدة، بما يؤدي إلى بناء تحالفات وعلاقات جديدة شرقية، آسيوية وأفريقية،
في نفس هذا السياق قد تندفع التحالفات الجديدة نحو تنامي الوجود الصيني كقطب اقتصادي عالمي كبير، متحالف مع القطب الروسي كقطب عسكري فاعل.
في سياق التعددية القطبية الجديدة، قد تتعمق ظاهرة عودة العالم لنظام القطبين الكبيرين، وعودة أجواء الحرب الباردة، بكل صراعاتها الاقتصادية والسياسية وتحالفاتها، وظهور تحالفات جديدة، أهمها تحالف غربي/ أمريكي، وتحالف شرقي (أوروبي آسيوي أفريقي) بقيادة روسيا والصين.
قد تدفع عودة ظاهرة القطبين الجديدين، الغربي والشرقي، وأجواء الحرب الباردة، إلى ظهور قطب ثالث بقيادة الهند والبرازيل، تكون نواته الدول التي امتنعت عن إدانة روسيا أثناء التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، يجتذب إليه الكثير من دول آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، يكون أقرب إلى كتلة عدم الانحياز التي نشأت بعد مؤتمر باندونج في خمسينيات وستينيات القرن العشرين.
في كل الأحوال، فإن نظاماً عالمياً جديداً متعدد الأقطاب في طريقه للتبلور والظهور، تحت تأثير الصراعات والعمليات العسكرية الجديدة، وعمليات الحصار الاقتصادي، والعقوبات الاقتصادية، والأزمات الاقتصادية، وفي ظل هذا التحول وسيناريوهاته المتعددة، فإن الدول الوطنية النامية في أطراف العالم، لا يمكنها أن تظل بمنأى عن هذه الصراعات والأزمات والتحولات والتحالفات الجديدة وتداعياتها، ولا سبيل أمامها سوى التحرك، والسير بوعي في الطريق الذي يحقق مصالحها ومصالح شعوبها السياسية والاقتصادية، ويحافظ على وحدة وسلامة واستقلال دولها الوطنية، وأمنها القومي.

* محمد فرج، الأمين العام المساعد لحزب التجمع.

تعليق 1
  1. galaarashed يقول

    التحليل السياسى عن مابعد الحرب الروسيه الاوكرانيه ..جانبه التوفيق والرؤيه …للاستلذمحمد فرج

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.