محمود بسيوني يكتب | ديمقراطية الجمهورية الجديدة ‏

0

لا يوجد للديمقراطية، كنظام سياسي، تعريف جامع مانع يرسم ملامح محددة لشكل من ‏أشكال ممارسة الحكم والسلطة يصلح لكل المجتمعات والدول، لكنها تحتوي على فكرة ‏رئيسية لا يختلف عليها أحد وهي التعددية السياسية، فبدونها لا يصح العمل ‏الديمقراطي ولا تستقيم العملية السياسية وتنضب مصادر تجديد دماء أي نظام حكم.

في السابق كانت التجربة الديمقراطية في مصر تتمحور حول نخب تمارس السياسة ‏وفق أجندات خاصة لم تتوافق مع أي مشروع وطني، نخب منفصلة عن ‏الواقع وتنتمي لأفكار متناقضة بينها الليبرالية المأخوذة من الليبرالية الغربية ‏لكنها مختلفة عن نموذجها الأم حسب رؤية المفكر الراحل رفعت السعيد، وما ‏قال في كتابه الليبرالية المصرية عن الفارق الجوهري بين الليبرالية الغربية والليبرالية المصرية، الأولى قامت على أكتاف مجتمع أكمل تشكيلته ‏الاقتصادية/ الاجتماعية/ السياسية، عبر ظهور طبقتين اجتماعيتين جديدتين ‏‏(البرجوازية، والعمال). كانت دول الغرب الليبرالية لا تعاني، كمصر، أو معظم ‏أنحاء العالم العربي، من الاحتلال الأجنبي‏.

ذلك التعريف هو الأقرب لأزمة الليبرالية المصرية عند ظهورها في بداية القرن ‏الماضي، بوجود حزب الوفد وصراعته السياسية مع النظام الملكي وأحزاب ‏القصر، وظهور نخب تمارس السياسة وفق أجندات متضاربة، في ‏ظرف احتلال أجنبي ونظام ملكي ضعيف منهار، يبحث عن البقاء رغم تحلل ‏دعائمه وفقدان شعبيته ومصداقيته. ‏

كان التأييد الشعبي لثورة 23 يوليو ونجاح قادة الثورة في إخراج الاحتلال واستعادة ‏الهوية المصرية سببًا رئيسيًا في غياب نخب وأحزاب ما قبل عام 1952، لكن مع ‏مرور الوقت افتقدت العملية السياسية لزخم الممارسة الديمقراطية، وتسبب ذلك ‏الفراغ في ظهور تيارات متطرفة اقحمت الدين في السياسة وتوغلت في مفاصل ‏العملية السياسية حتى أنها وصلت للتأثير المباشر والسيطرة على حركة النخب اليسارية والليبرالية ‏وباقي التيارات السياسية، حتى وصلنا للحظة الانفجار في يناير 2011، واحتكار ‏المتطرفين للعمل السياسي وسعيهم إلى تقسيم المجتمع على أساس طائفي والاشتباك ‏مع مكوناته من أجل الوصول إلى حالة التمكين الكامل ‏لمشروعهم الإقصائي ثم ممارسة العنف ضد معارضيهم باسم الدين.‏

تلك العواصف أثرت بالسلب على العمل السياسي بل وأدت إلى انفضاض الناس عن ‏النخب والالتفاف حول الدولة في لحظة المخاض المصاحبة لثورة 30 يونيو.
مع استقرار الأوضاع بدأت الجمهورية الجديدة في التخطيط على المستقبل والبحث ‏عن صناعة نخبة جديدة تنشأ في مناخ ديمقراطي سليم وتتعلم الممارسة الصحيحة، في ‏مدرسة كادر سياسي تقوم على احترام التنوع والاختلاف مع وحدة الهدف، وهو تغذية ‏الانتماء إلى المشروع الوطني المصري، ورفع مستوي الدعم العام والمساهمة في مشروعات البناء الممتدة في ‏كل ربوع الوطن.

لأول مرة تشهد مصر خطوات جادة في تنمية المشاركة السياسة وتمكين الشباب من ‏القيادة بدعم من الرئيس عبد الفتاح السيسي بإعلانه عن البرنامج الرئاسي لتأهيل ‏الشباب للقيادة‏PLP ‎‏، وتخرجت منه ثلاث دفعات وقبل أيام انطلق التقديم للدفعة ‏الرابعة، ثم ظهرت المؤتمرات القومية للشباب وتطورها إلى منتدى شباب العالم ثم ‏ظهور الأكاديمية الوطنية للتدريب وتنسيقية شباب الأحزاب وكلها أفرزت قيادات ‏شابة قادرة على تحمل المسئولية الوطنية، وأصبحت مصر من خلالهم تمتلك كوادر ‏سياسية نشأت في بيئة ديمقراطية سليمة تقبل التعدد والاختلاف وقريبة من مؤسسات ‏الدولة ومراكز صنع القرار بداخلها، بعدما وصل عدد كبير منهم إلى المجالس النيابية ‏وقيادة المحافظات كنواب ومساعدين للمحافظين.‏

الفارق بين النخب الجديدة والنخب السابقة هي الممارسة العملية، حيث اتجهت النخب الجديدة إلى التفاعل مع الشارع ومارست السياسة في بيئة بناء وتعمير وإنجازات كبرى، مشاركة في إدارة الشأن العام كشريك في صنع القرار، وتعلمت وفق أحدث مناهج الإدارة والقيادة في البرنامج الرئاسي أو في الأكاديمية الوطنية للتدريب، لا يشغلها التنظير أو الحكم على الأشياء دون دراسة ولم تلوثها الأجندات غير الوطنية، ومارست الحوار مع كافة التيارات واشتغلت بالسياسة في عدم وجود التيار الإرهابي المحظور الذي جمد العمل السياسي المصري ولوثه طيلة 80 عامًا.

تتجه مصر إلى الجمهورية الجديدة وفي جعبتها تجربة سياسية شابة طموحة تستحق فرصتها الكاملة في التعبير عن نفسها ورسم مساراتها وفق الأجيال الجديدة من الديمقراطية، القائمة على المشاركة بين الأحزاب والمجتمع المدني، وتمتلك من الأدوات السياسية ما يمكنها من تنظيم صفوفها وتنقيتها من أي شائبة في ظل وجود أجهزة رقابية قوية وإرادة سياسية لا تقبل الفساد أو الإفساد.

تلك التجربة تؤسس لممارسة ديمقراطية سليمة وفق تركيبة مختلفة تقودها عملية تمكين المرأة والشباب الطموح كشريك متضامن في تحسين الأداء السياسي وقياس رضاء الشارع، وهو ما ظهر في اهتمام الأحزاب بالتفاعل الاجتماعي مع الحالات الإنسانية الطارئة وجعل الأحزاب قريبة من الناس وخلق تفاعل بينهما، وشكل ضغطا على النواب من أجل نقل انتقادات الشارع للحكومة عبر البرلمان عبر استخدام الأدوات الرقابية في مسألة الوزراء والحكومة، وإصدار تشريعات تتفاعل مع احتياجات فئات المجتمع والأهم أنها تجربة مصرية خالصة تقود الإصلاح الديمقراطي في الجمهورية الجديدة.

* محمود بسيوني، رئيس التحرير التنفيذي لموقع مبتدأ

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.