محمود حبيش يكتب | الاحتلال بالهوية لا بالسلاح
دائمًا ما كان يتبادر إلى ذهني سؤال استنكاري هل تحتاج روسيا فعلًا إلى حرب لإعادة الهيمنة على دول الإتحاد السوفياتي سابقًا ؟!
وسريعًا ما كان يحضرني الإجابتين المتضادتين وكلٌ منهما بسبب.
لكن قبل مناقشة طرحي وتفسيري للموقف الروسي وضرورة أتخاذ قرار الحرب من عدمه دعونا نرجع بالزمان الى ما قبل عام ٢٠١٤ م، كان بين روسيا وأوكرانيا ومعظم دول السهل الأوروبي المتصلة بحدود مباشرة وغير مباشرة مع الاتحاد الروسي اتفاقيات عبور الحدود وتبادل تجاري مشترك، الى أن حصلت الثورة الاوكرانية على النظام الحاكم الموالي لروسيا آن ذاك وقامت بخلع الرئيس الاوكراني المنتخب فيكتور يانوكوفيتش، وتسارعت وتيرة الأحداث حتى وصول بترو بوروشنكو لسدة السلطة والذي بدورة بدأ اتخاذ سياسات مناهضة لروسيا بدأت بإشعال الحرب بين البلدين أو ما سماه الروس تأمين للمياه الدافئة في بحر الشمال أو حماية الأقليات الروسية في أوكرانيا وصولًا لما نحن عليه اليوم.
دعونا نرجع بالتاريخ الى أواخر عام ١٩٩١ بسقوط الإتحاد السوفيتي، بعد فترات عصيبة مر بها الاتحاد السوفيتي اضطرت روسيا للتخلي عنه وعن حلف وارسو الى أنها تراجعت جولة ولم تنسحب من المباراة على حد تقديري، من بعد عام ١٩٩١ انضمت كل دول الاتحاد السوفيتي في القارة الأوروبية إلى المعسكر الغربي وجمعهم الانفتاح الثقافي والتجاري مع دول الحلفاء سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة الاميركية.
وبعد ما يزيد عن الثلاثين سنة حتى يومنا الحالي مازالت هذه الدول تدين للجانب الروسي باللغة والعادات والتقاليد.
لقد زرت من قبل العاصمة الروسية موسكو وسافرت الى بعض المدن الروسية الأخرى وبعدها زرت العديد من عواصم دول أوروبا الشرقية التي كانت جزءً من الاتحاد السوفيتي سابقًا، أكاد أجزم أني شاهدت نسخ مختلفة من العاصمة موسكو في تلك المدن الأوروبية .. ما نجح به السوفيت هو إدراكهم أن قبضة الحديد والنار لا تدوم والتاريخ خير شاهد على ذلك في مختلف العصور، فلجأوا إلى زرع القيم العادات والتقاليد واللغة الروسية في تلك الشعوب، إن روسيا احتلت تلك الدول ثقافيًا وفكريًا قبل احتلالها عسكريًا وإن أردنا أن نكون أدق في التعبير فإن الروس لجأوا إلى ” إحتلال الهوية ” لتلك الشعوب.
بعد زيارات متعددة لدول أوروبا الشرقية صار من المتوقع لدي ولا يثير دهشتي أن أسمع المواطنين يتكلمون الروسية في جمع متعدد الجنسيات فتكون هي اللغة المفهومة للجميع، وكذلك أن أرى الهدايا التذكارية من البلد لا تخلو من دمية ” الماتريوشكا ” الروسية ناهيك عن الأكلات في المطاعم وعادات المواطنين في الشوارع، لكن الأغرب لدي كان أثناء زيارتي الاخيرة للعاصمة البولندية – وارسو – وكان ذلك بعد ما يزيد عن السنة من بداية الحرب الروسية الأوكرانية، قابلت الكثير من اللاجئين الأوكرانيين الذين لم ينفكوا عن اللغة الروسية ولو على سبيل الانتصار لقضيتهم حتى بل كان المدهش بالنسبة الى عندما سألته لماذا لم يتعلم الانجليزية وهو حديث السن ولم يعاصر الاتحاد السوفيتي فأجابني أن والده كان يقول أن تعلم الانجليزية بمثابة الخيانة في بلادهم، بل والادهش أنه لا مشاكل لهم مع الشعب الروسي ولا يمانعون إن حُكموا من كييف أو من الكريملن، كان أقصى ما يثير غضبهم هو الحرب والدمار وتهجيرهم من بلادهم !!
عندما أصريت على محادثة أحد الأوكرانيين باللغة الأوكرانية أصر على تكلم الروسية حيث أنها أسهل للترجمة عبر تطبيقات الترجمة على الانترنت، ولكن الحقيقة هي الأسهل له هو ليتحدثها لا كما يدعي.
ومن هنا نعود أدراجنا إلى السؤال أول المقال هل حقًا كانت روسيا مضطرة للحرب ؟
والإجابة هي نعم. في الحرب الأولى عام ٢٠١٤ نعم كانت مضطرة لذلك لتأمين المنفذ البحري الوحيد الغير متجمد أمام سفنها وتجارتها وبالأخص في ظل وجود حكومة مناهضة لها وموالية للغرب.
ويعيد التاريخ نفسه في عام ٢٠٢٢ بتحدي الحكومة الحالية لتهديد الحدود الروسية بتقريب حلف الناتو إلى العمق الروسي.
والإجابة الأخرى بلا فكانت تكفيها الاتفاقيات التجارية واستمرارها بتغذية تلك الشعوب بأفكارها وبضائعها وغزو أسواقهم بالمنتجات الروسية التي اعتادوا عليها لولا أن تغيرت الخريطة السياسية لوصول حُكام مناهضين للسياسة الروسية.
لكن كان أحرى بك عزيزي القارئ أن تجد سؤالًا أهم هل يوجد احتلال بدون مقاومة شعبية ؟ هل حقًا تألف تلك البلاد جنود المحتلين ؟
ومن هنا علينا أن نعي أن الحرب القادمة لن تكون حرب مدافع صواريخ وهي مكلفة جدًا الآن، ستكون حرب ملعومات وحرب طمس للهوية الأصيلة الراسخة للشعوب وإحلالها بالهويات الأجنبية بمسمى الحداثة تارة ومسمى التقدم تارة أخرى وأخرى بمسمى الانفتاح والحريات .. والمسميات لا تنتهي، أضع أمامكم الآن تصور للمستقبل فلن ينتهي الأمر الروسي عند أوكرانيا بل ستتبعها مولدوفا وجورجيا ودول البلقان وصولًا ببولندا درة تاج الاتحاد السوفيتي قديمًا وسبب انهياره حديثًا وأن للروس بها ثأرًا سيدركوه وكل دولة مازالت تدين بالهوية للهوية الروسية.
الهوية المصرية هي درع النجاة الأول أمام كل غازٍ أجنبي على مر التاريخ وللأسف نتنازل عنها بغير وعي أمام الانفتاح المبهر على الحضارات الغربية، فدائمًا وأبدًا كنا مصريين لم ينتزع أحد منا مصريتنا على مر التاريخ من الهكسوس إلى التاتار مرورًا بالفرنسيين والانجليز وحتى داعش والاخوان المسلمين في العصر الحديث، فلم نتكلم لغة غازي أو معتدي لم نتطبع بطباعهم ولم نتحول لدياناتهم معبوداتهم بل ظلت مصر تعرف عن نفسها بنفسها كدرة التاج في وسط شعوب العالم.
علموا أبنائكم أن الهوية سيف ودرع نجاة نتعلم لغات وحضارات الأمم لنتواصل مع العالم وننمي مداركنا ونعود نجلس مجالس آباءنا ونفخر بتراثنا واصولنا العريقة، واعلموا أن العدو يحيط بنا يدرس وينتظر ويجرب كل الحيل لتفكيك الهوية المصرية ويتبعها تفكيك وحدة الصف المصري لنصبح مثل ما رأينا من دول الجوار والله من وراء القصد.
حفظ الله مصر وهويتها ووحدة شعبها.