محمود حبيش يكتب | متى يكون إنهيار القطاع المصرفي مفيدًا للاقتصاد ؟

0

نتابع في هذه الأيام إحدى أسوء الأزمات الاقتصادية على مستوى العالم منذ الحرب العالمية الثانية، وكنت ومازلت دائم الذكر في مقالاتي وكتاباتي أن التاريخ خير معلم ومثل وأن من يجهله يحكم على نفسه بالدهشة.

استحضرتني الذاكرة لأولى محاضراتي عن الاقتصاد الكلي، وتذكرت إحدى شرائح العرض التي عرضت وكانت عبارة عن رسم بياني للناتج المحلي الإجمالي العالمي منذ منتصف القرن التاسع عشر. وضحت الشريحة توسع الاقتصاد العالمي بشكل كبير بجانب نقطة واحدة تظهر انحرافا ملحوظا في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي، ونعلم جميعًا أنها كانت من نصيب انهيار وول ستريت في أكتوبر،عام ١٩٢٩ أو ما سمي بعد ذلك ” بالكساد الكبير “.

والغريب في الأمر أنه بعد مرور هذه الأزمة عاد صناع السياسة إلى نفس الخطوات المتسمة بالغرور لكن أقل اندفاعًا مطمئنين العامة بأن مثل هذه الأمور لن تحدث مرة أخرى، حتى دحضت الأزمة المالية العالمية في عام ٢٠٠٨ الأفكار القائلة إن جميع الأسئلة المتعلقة بكيفية الحفاظ على تقدم الاقتصادات بشكل جيد قد تمت الإجابة عنها.
وكان من الملفت أنه قبل انهيار بنك ليمان براذرز كان هناك وجهة نظر سائدة، وهي أن النظام المالي ليس إلا مجرد وكيل للنشاط الاقتصادي، ومخصص فعال لرأس المال، وأن الاقتصاد خالٍ من الحيوية والحركة.

في الأيام القليلة الماضية أثار إفلاس بنك وادي السيليكون ذعر مالي كبير يمكن أن يؤدي بدوره إلى أزمة ائتمانية صعبة من شأنها أن تدفع بالاقتصادات العالمية نحو الركود.
كانت تلك المخاوف هي السبب الذي دفع السلطات الأمريكية لإنقاذ جميع المودعين في البنك.

هناك العديد من الأزمات التي تؤثر سلبًا على الاقتصاد مثل الحروب، وانتشار الأوبئة والأمراض، أو أزمات تمويلية مثل انفجار فقاعة الإنترنت في أواخر التسعينات لكن لم يكن للذعر الناشئ عنها تأثير مدمر للغاية في النمو مثل كل مرة يحدث فيها انهيار بالقطاع المصرفي.

بعد هذه الاستقراءات للماضي ومتابعة ما يحدث الآن يتبادر إلى ذهني السؤال الأهم، لما نخاطر أكثر من اللازم بالسياسات التمويلية رغم معرفتنا بقدرة التمويل على إحداث الفوضى ؟
كي يؤثر فشل السياسات التمويلية لأحد البنوك في الاقتصاد العالمي لا بد من أن يصحب هذا الفشل أمرين وهما :-
– أن هذا الفشل يجب أن يؤدي إلى ذعر مالي أوسع ينشر أخبار سلبية بصورة كبيرة من شأنها دفع المودعين إلى التسابق في سحب أموالهم من البنك المشرف على الإفلاس.
– والآخر أن يتسبب الذعر في أزمة ائتمانية أوسع تلحق بالبنوك الأخرى والقطاع المصرفي ككل.

المنافسة المصرفية منافسة غير عادية من حيث أن انهيار أحد المنافسين لا يعد بالضرورة مسألة مفرحة للبنوك التي بقيت صامدة، وخير مثال على ذلك إنقاذ بنك “يو بي إس” لبنك “كريدي سويس”. لو لم يفعل ذلك لكان من المحتمل أن تكون التوابع أسوأ بالنسبة إليه، وربما إلى بقية البنوك الأوروبية.

في الماضي كان من الممكن أن يستغرق انتشار الأخبار السلبية بعض الوقت، حتى في نوبات الاضطرابات الشديدة مثل الكساد العظيم، لكن في العصر الرقمي، يبدو أن وجود فجوة زمنية قصيرة بين الحدث الأولي والتهافت على البنوك لسحب الودائع أمرا مقبولًا، كما حدث من هبوط معظم أسواق الأسهم والبورصات العالمية في الجلسة التالية لإفلاس بنك وادي السيليكون.

وبالعودة الى السؤال السابق أنه رغم الدراية الشديدة بمخاطر التمويل وقدرته على إحداث كوارث اقتصادية لو خرج عن السيطرة كما حدث في أزمة ٢٠٠٨ ، إلا ان الإجابة تُختصر في كلمتين – الطمع والربح – يعتمد القطاع المصرفي بشكل أساسي على ارباحه عن طريق الإقراض وتحصيل فوائد الديون، وعند الإفراط في منح الديون والتخلي عن بعض محاذير إدارة المخاطر لتوسيع الشريحة المستحقة لمنح القرض وتعظيم الربح بالتبعية، تحدث الأزمة عند تخلف المقترضين عن سداد أقساط القروض ومع اتساع الفجوة التمويلية بين سداد التزامات البنك وتحصيل أقساط القروض يتعرض البنك للإفلاس، وطبعًا يسرع من وتيرة الأزمة الأحداث الخارجية مثل الحروب وانتشار الأوبئة مثل كوفيد ١٩ والحرب الروسية الأوكرانية، وكما ذكرنا سلفًا أن إحداث الذعر وسرعة انتشاره من شأنه أن يحدث أزمة مالية واقتصادية عالمية كالتي نقف على مشارفها الآن.

وهنا ننتقل الى السؤال التالي، كيف يمكننا معرفة متى يكون إفلاس القطاع المصرفي مهما للاقتصاد أم لا ؟

للإنصاف يجب أن نعترف أن علم الاقتصاد يعتمد بنسبة كبيرة على الاحتمالات ولا يوجد شيء مطلق، في أغلب الأحيان تكون الإجابة الصحيحة بعد فوات الأوان وحدوث الأزمات، لكن الجيد في الأمر أنه يترك لنا دروسًا من شأنها أن نتفادى تكرارها في المستقبل، وكما ذكرت سلفًا على أهمية مراجعة التاريخ فالماضي لا يقدم لنا الإجابات كلها، لكنه يعطينا بعض الإرشادات.

بالنظر في استطلاعات الرأي، مثل إصدار هذا الشهر من الاستطلاع ربع السنوي الذي يجريه الاحتياطي الفيدرالي لمسؤولي القروض، يُقدم بعض المؤشرات على إذا ما كانت البنوك على وشك السماح لمقترضيها بالتأرجح ومواجهة مصيرهم، وتحديد إذا ما كان الاقتصاد العالمي مرنا بما فيه الكفاية لتحمل نوبة جديدة من الاضطراب المصرفي.
هنا يكون انهيار القطاع المصرفي والبدء من جديد بمستويات متدنية من الفائدة على الإقراض والإيداع وإسقاط ديون الشركات المتعثرة أمر صحي للاقتصاد العالمي والسماح للشركات والمصانع بإعادة التمويل بنسب معقولة من الفائدة وبالتالي إعادة العمل دون إثقال كاهلهم بمزيد من أعباء الدين.
وكذلك عودة عجلة الإنتاج بعد توقف توجة فيه أموال المستثمرين الى البنوك عالية الفائدة ومنعدمة المخاطر على الودائع بدلًا من الاستثمار في الصناعة والزراعة والإنتاج.

في هذه الأثناء، من المهم بالنسبة لنا أن نكون أقل تشبها بأساتذة الاقتصاد في العقود الماضية المعتمدين كليًا وجزئيًا على القطاع المصرفي، وأن نكون أكثر تفاؤلًا بالإنتاج، حيث أنه في الاقتصاد لا شيء يُعد أمرًا مسلمًا به.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.