محمود كرم يكتب | تجربة الأعلام الرواندي في تغيير سلوكيات المواطنين

0

يعد الإعلام عنصراً أساسياً في حياة الأفراد والمجتمعات، حيث يلعب دوراً محورياً في تشكيل وتغيير السلوكياتت والقيم الإجتماعية.
وتعتبر رواندا واحدة من أكثر الدول الأفريقية تطوراً منذ نهاية الحرب الأهلية التي عصفت بها في أوائل التسعينيات، حيث تمكنت الدولة من التعافي السريع وبناء نظام سياسي واقتصادي واجتماعي مستقر، ويعد الأعلام من أبرز العوامل التي ساهمت في هذا التحول الكبير، حيث لعب دوراً حاسماً في تعزيز الوحدة الوطنية، وتشجيع التسامح، وتعزيز السلام الداخلي، وإعادة بناء الثقة الاجتماعية بين الأقليات المختلفة.

ولفهم تجربة الأعلام في رواندا، يجب الرجوع إلى الاساس التاريخي والسياسي للبلاد، حيث شهدت حرب أهلية عام ١٩٩٤، تعد واحدة من أكثر الصراعات الدموية في تاريخ أفريقيا، خلال هذه الفترة المأساوية، لعب الأعلام الرواندي دورًا حاسمًا ولكنه سلبي بشكل كبير.

وتعد الإبادة الجماعية في رواندا، النموذج الأكبر والموثق دوليا على قيام الأعلام بدور المحرض على الكراهية والقتل، حيث إن هذه الحرب التي راح ضحيتها نحو مليون شخص ، كانت نتيجة مباشرة لإعلام الكراهية، كما وثقت ذلك المحكمة الجنائية الدولية، إذ تميز الأعلام خلال هذه الفترة بالتشوهات والتحيزات التي ساهمت في هذه الحرب، حيث استخدم كأداة للتطرف والتأييد العنيف، عبر نشر اخبار كاذبة ومغلوطة تحرض على القتل والكراهية ضد الجماعات الاخرى، وتبرر الجرائم التي ترتكبها المجموعات المسلحة، بأسباب غير مقبولة من الناحية الأخلاقية، مما أدى إلى تشويه الواقع وتضليل الجمهور، الأمر الذي أدى في النهاية إلى تأجيج العنف وزيادة التصعيد بين الأطراف المتنازعة.
بداية جديدة
بعد أنتهاء النزاع، بدأت الحكومة الرواندية في تنفيذ سياسات تهدف إلى تعزيز الوحدة الوطنية والتسامح، كان الإعلام في هذه المرحلة أداة قوية لنشر رسائل السلام والتسامح، عبر إنشاء برامج تلفزيونية وراديوية تركز على قضايا الوحدة والتسامح، مما ساعد في تقوية الروابط بين المجتمعات المتنوعة في رواندا.
ومن خلال البرامج التعليمية والتثقيفية، نجح الإعلام في رواندا في تغيير السلوك الاجتماعي بشكل كبير، على سبيل المثال، تم إنشاء برامج تلفزيونية تركز على الصحة العامة والتعليم، مما أدى إلى زيادة الوعي بين المواطنين بشأن هذه القضايا، كما تم تشجيع المشاركة المجتمعية في هذه البرامج، مما زاد من تأثيرها الإيجابي على السلوك.
وفيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية، لعب الإعلام دورًا حاسمًا في توجيه المواطنين نحو الاستثمار والتصنيع، حيث تم إنشاء برامج تلفزيونية وراديوية تركز على الأعمال التجارية والابتكار، مما أدى إلى تحفيز المواطنين على الاستثمار في المشاريع الصغيرة والمتوسطة، كما تم أيضا تقديم دعم للمزارعين والتجار من خلال البرامج التي تقدم نصائح وأفكار تجارية.

في سبيل الوصول إلى هذه الغاية، استخدمت رواندا عدة أدوات ووسائل لتقوية القطاع الإعلامي وإعادة بنائه بشكل يتوافق مع الأهداف الوطنية والتي جاءت كالتالى:
– تطوير البنية التحتية الإعلامية:
أحد أهم الخطوات التي اتخذتها رواندا لتقوية الإعلام كان تطوير البنية التحتية اللازمة له، فقد تم توفير الأجهزة والمعدات الحديثة للإذاعة والتلفزيون، بالإضافة إلى تحديث شبكات الإنترنت والاتصالات، هذا التطوير لم يكن مجرد تحديث للمعدات، بل كان إعادة بناء للقطاع بشكل شامل، حيث تم توفير الموارد المالية والفنية لبناء مراكز إعلامية جديدة وتحديث المراكز القائمة، كما تم توسيع نطاق التغطية الإعلامية ليشمل جميع أنحاء البلاد، مما سمح بوصول المعلومات إلى جميع المواطنين بشكل أكثر فعالية.
– تعزيز القدرات البشرية:
تعتبر القدرات البشرية العنصر الأساسي في أي قطاع إعلامي ناجح، لذلك قامت رواندا بتنفيذ برامج تدريبية وتعليمية شاملة للعاملين في مجال الإعلام، حيث تم تقديم دورات تدريبية في مجالات الصحافة الإلكترونية، والتصوير الإعلامي، والإخراج، والإنتاج الإعلامي، كما تم تعزيز التعاون مع المؤسسات الدولية والأكاديمية لتوفير التدريب المتقدم للصحفيين والمحررين، هذه البرامج لم تساعد فقط في تحسين مهارات العاملين في الإعلام، بل أيضًا في تعزيز المهنية والمصداقية في العمل الإعلامي.
– توفير المحتوى المحلي:
بعد الحرب الأهلية، كان هناك حاجة ماسة لتوفير محتوى إعلامي محلي يعكس الثقافة والتاريخ والأحداث اليومية ففي رواندا، لذلك تم تشجيع إنتاج المحتوى المحلي من خلال توفير الدعم المالي والفني للمؤسسات الإعلامية المحلية، حيث تم إنشاء مشاريع لإنتاج البرامج التلفزيونية والإذاعية المحلية، بالإضافة إلى توفير الدعم للصحفيين والكتاب المحليين، هذا التركيز على المحتوى المحلي لم يساعد فقط في تعزيز الهوية الوطنية، بل أيضًا في تحسين الوعي الإعلامي بين المواطنين.
– تعزيز حرية الأعلام: في عام 2003، تم إجراء تعديلات دستورية تضمنت حماية حرية الصحافة كجزء من الحقوق الأساسية للمواطنين، هذه التعديلات أعطت الصحافة الرواندية قوة دستورية لممارسة وظيفتها دون خوف من الرقابة أو التضييق، هذه الخطوة كانت بمثابة تأييد صريح لدور الصحافة في المجتمع الرواندي، هذا فضلا عن إصدار العديد من القوانين واللوائح تحمي حقوق الصحفيين وتمنع حدوث اي انتهاكات لهم.

– تعزيز الشفافية والمساءلة:
تعمل الحكومة الرواندية على تعزيز الشفافية والمساءلة من خلال توفير المعلومات العامة بشكل أكثر وضوحًا ( حرية تداول المعلومات) حيث تم إنشاء مراكز معلوماتية تسهل الوصول إلى البيانات الحكومية، مما يمكّن الصحفيين من إجراء تحقيقات أكثر عمقًا وتقديم تقارير أكثر شمولية.
في النهاية يمكن القول أن ن تجربة الإعلام في رواندا تقدم دروسًا قيمة للبلدان الأخرى، سواء في أفريقيا أو على المستوى العالمي، من أبرز هذه الدروس:
– الديمقراطية والحرية الصحفية: الديمقراطية هي الأساس للحرية الصحفية، إذ يجب أن تكون هناك حماية قانونية للصحفيين والمؤسسات الإعلامية للعمل بحرية وشفافية.
– التنوع والاستقلالية: التنوع في الإعلام يضمن الوصول إلى معلومات متنوعة ومتعددة الأصوات، حيث يجب أن تكون المؤسسات الإعلامية مستقلة عن القوى السياسية والاقتصادية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.