محمود كرم يكتب | سنغافورة وسلوك المواطنين

0

سنغافورة، التي تُعرف باسم “المدينة الصغيرة التي لا تنام”، تعتبر مثالاً بارزاً في العالم للنجاح الاقتصادي والاجتماعي، ومع ذلك، فإن الجانب الأكثر إثارة للاهتمام في تجربة سنغافورة هو قدرتها على تغيير سلوك المواطنين بشكل فعال وديمقراطي، إذ تمكنت خلال فترة قصيرة من تحويل نفسها من دولة فقيرة إلى واحدة من أكثر البلاد تقدماً وثقافةً في العالم.
هذا التغيير لم يكن نتيجة حظ او صدفة، بل كان نتاجًا لاستخدام مجموع من الأدوات التي تم تصميمها بعناية وتنفيذها بدقة لتحقيق النتائج المرجوة.
ويُعد التعليم أحد أهم الأدوات التي تستخدمها سنغافورة في تغيير سلوك المواطنين وتعزيز الوعي المجتمعي، وتركز على التعلم النشط والتفاعلي، وهو نهج تعليمي يعتمد على تشجيع الطلاب أو المتعلمين على المشاركة الفعالة في عملية التعلم، بدلاً من التعلم المباشر أو التلقيني، حيث يتم تشجيع المتعلمين على التفكير النقدي، وحل المشكلات، والتفاعل مع الآخرين، وتطبيق المعرفة في سياقات حقيقية، هذا النهج الذي يتم تطبيقه في مختلف المجالات، بما في ذلك التعليم الرسمي، والتوعية المجتمعية، والتدريب المهني، يعد أكثر فعالية في تثبيت المعلومات وتطوير المهارات العقلية والاجتماعية.
كما تركز سنغافورة أيضا في مجال التعليم على تعزيز القيم الوطنية والاجتماعية، إذ يُعتبر الوطنية والانتماء للدولة من أهم القيم التي يتم تعزيزها في المناهج الدراسية، حيث يتم تعليم الطلاب أهمية التعاون والتكاتف لتحقيق النجاح الجماعي، وكذلك عن أهمية التزام المواطنين بالقوانين واللوائح التي تحافظ على النظام والاستقرار الاجتماعي.
وذلك بالإضافة إلى التربية الدينية والأخلاقية التي تلعب دورًا كبيرًا في هذا الشأن، فعلى الرغم من تعدد الأديان والثقافات في البلاد، إلا أن هناك تركيزًا كبيرًا على تعليم الطلاب القيم الأخلاقية العامة والمبادئ الدينية التي تشترك فيها معظم الأديان، حيث يتم توفير دورات وبرامج تربوية تركز على تعليم الطلاب عن أهمية الصدق، والشجاعة، والعدل، والاحترام للآخرين.
أيضا تعد المكافآت والعقوبات، أحد أبرز الأدوات التي تسخدمها سنغافورة لتغيير سلوك المواطنين، فبالنسبة للمكافآت، تم إطلاق العديد من البرامج والمبادرات لتقديم المكافآت للمواطنين الذين يتصرفون بشكل مطابق للقيم الاجتماعية المرغوبة، منها برنامج النقاط الاجتماعية (Social Points Program)، الذي يُعتبر أحد أبرز البرامج التي تم تطبيقها في سنغافورة لتحفيز السلوك الإيجابي، هذا البرنامج يمنح المواطنين نقاطًا اجتماعية عندما يقومون بأفعال مثل التبرع بالدم، أو المشاركة في الأنشطة التطوعية، أو الالتزام بالقواعد الاجتماعية المعيارية. يمكن استبدال هذه النقاط بمزايا مختلفة مثل الخصومات على الخدمات الحكومية أو المشاركة في الفعاليات الاجتماعية.
تقدم الحكومة السنغافورية أيضًا مكافآت مالية للمواطنين الذين يتصرفون بشكل مثالي، على سبيل المثال، يتم منح مكافآت مالية للأسر التي تتبع أساليب تربية مثالية للأطفال، كذلك المطاعم والمقاهي التي تقدم بدائل صحية للأطعمة والمشروبات، هذه المكافآت تعمل على تعزيز السلوك الإيجابي وتشجع المواطنين على الالتزام بالقواعد والمعايير الاجتماعية.
أما العقوبات فهي أداة قوية في يد الحكومة السنغافورية لتحقيق السلوك المرغوب وتعزيز القيم الاجتماعية، فعلى سبيل المثال، يمكن للشخص الذي يلقي قارورة بلاستيكية في الشارع أن يواجه غرامة تصل إلى 1000 دولار سنغافوري، وهو مبلغ كبير نسبيًا يمكن أن يكون له تأثير كبير على السلوك. أيضا هناك عقوبات بدنية مثل الضرب بالعصا أو السوط بالإضافة إلى السجن تطبق على العديد من الجرائم مثل الاغتصاب والسرقة.
بالإضافةً إلى العقوبات المالية والجنائية، يتعرض المخالفون لعقوبات اجتماعية، مثل العار والعزلة الاجتماعية، هذا الضغط الاجتماعي يعمل على تثبيط
المخالفات وتشجيع الالتزام بالقوانين.
أيضًا استطاعت سنغافورة تغيير السلوك الاجتماعي، عبر تطبيق نظام محاسبي ومالي قوي يتطلب الإبلاغ عن جميع المعاملات الحكومية بشكل شفاف، من خلال توفير معلومات دقيقة وشفافة عن جميع المعاملات الحكومية، يمكن للدولة إتخاذ قرارات مستنيرة ومبنية على بيانات موثوقة، كما يمكن أيضا للمواطنين من خلاله مراقبة كيفية استخدام الأموال العامة والتأكد من أنها تُنفق بشكل مسؤول وفعال، هذا الإبلاغ الشفاف يساعد في تقليل الفساد والتلاعب المالي، مما يؤدي إلى تعزيز الثقة والإيمان بين الحكومة والمجتمع.
تجربة سنغافورة مليئة بالعبر والدروس وجديرة بالدراسة والتعلم منها، إذ استطاع هذا البلد الصغير أن يصنع نهضته بنفسه من خلال توجيه سلوكيات الناس وتصميم البدايل بحذر لحثهم على اختيار ما يناسب مصلحتهم
.
صحفي وعضو مشتغلين بنقابة الصحفيين

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.