محمود يوسف بكير يكتب | أوهام وآمال الإصلاح الديني

0

‏الإصلاح الديني في عالمنا العربي لا يقل أهمية عن الإصلاح الاقتصادي الذي ندعوا إليه دائما في العديد من المقالات وهو أصعب وأكثر تعقيدا لأن الدين هو الأساس الذي تقوم عليه منظومة العلاقات الإنسانية والتعليم والفكر والثقافة والفنون في مجتمعاتنا ‏العربية. فإذا ما كان هذا الأساس أي الدين مغلقا وغير قابل للتطور والتوافق مع التقدم العلمي والحضاري وحقوق الإنسان المعاصر فإننا سنظل أسرى الماضي ومعادين للعقلانية والحداثة والتقدم أو على أقل تقدير غير مبالين بهم ‏متشككين فيمن يعتنقها. ‏كما أن تخلف البنيان الثقافي والفكري في أي مجتمع ينعكس بالضرورة وبشكل سلبي على قوى وعلاقات الإنتاج والبنيان الاقتصادي ككل كما ثبت لنا عبر تاريخ الفكر الاقتصادي.
هناك شبه إجماع بين كل التيارات السياسية والدينية والمذاهب الفكرية على أن هناك تخلف واضح في آلية عمل العقل الديني بدأت ‏في القرن 13 الميلادي ومن وقتها ونحن نعاني من التدهور الحضاري في كل شيء وهو ذات الوقت الذي شهد بداية ‏التفوق الحضاري والمعرفي الأوروبي. ولم تعد مسألة تخلف العالم الإسلامي محل جدل طوال هذه القرون وأصبحت القضية تدور حول أسباب هذا التخلف وكيفية التعامل معه. ومؤخرا ظهرت محاولات عجيبة للتغطية على هذا ‏التخلف من خلال الإعتداد المبالغ فيه بالحضارة الإسلامية القديمة والتغني بأمجاد الماضي بدعوى الأصالة والمحافظة على الثوابت ،هذا بالرغم من خطورة هذا النهج في تكريس حالة من الرضا بما نحن فيه من تخلف والهروب من استحقاق البحث في مسألة غياب أي دور للدين في معالجة أمراض مجتمعاتنا العربية و التي يمكن أجملها في الاستبداد والفساد والظلم الاجتماعي و غياب منظومة ‏الحريات الفردية للإنسان العربي و تفاقم مشكلة فجوة الدخل والثروة بين الأغنياء والفقراء وعدم المساواة بين الرجل والمرأة ….وقائمة المشاكل لا نهاية لها. ‏
كل هذه المشاكل أدت إلى محاولات عديدة للإصلاح الديني في العالم العربي وقد أخذت هذه المحاولات زخما كبيرا في القرن الماضي ولكن ما لبث أن تم وأدها بسرعة بواسطة المؤسسات والحركات الدينية القوية المدعومة شعبيا. كما نشأت أيضا حركات للإصلاح من داخل المؤسسة الدينية نفسها وقد حاولت ‏هذه الحركات التركيز على أسباب تراجع الأمة الإسلامية وأسباب تجمد الفكر الإسلامي وانفصاله عن الواقع وكيفية التعامل مع اختلاف مفاهيم ومعاني ومصطلحات الإسلام وتناقض فتاواه، وكيفية مواجهة التحدي الثقافي والحضاري الغربي. ‏ومن أبرز المصلحين القدماء الإمام محمد عبده ولنا مقال في هذا الموقع عن فكره ورؤاه الإصلاحية.
وفي رأينا المتواضع وبختصار شديد فإنه يمكن بيان أسباب صعوبة الإصلاح الديني في عالمنا العربي وأسباب تعثر كل المحاولات الإصلاحية المخلصة قديما وحديثا من خلال تتبع المصادر المقدسة الثلاث التي تتحكم في الفكر الإسلامي وفي وعي الجماهير وهي القرآن والسنة والتفسير وما يتضمنه من الأحكام والإجماع والقياس والاستحسان.
‏والمصدر الاخير بمكوناته المختلفة هو العنصر البشري في الموضوع هو أخطر المصادر الثلاث بالرغم من كل ما احتواه من اختلافات وتناقضات بين الأئمة. وقد أكتسب قداسته بحكم الزمن الطويل الذي مر عليه دون أن يخضع لأي نقد أو تحقيق علمي باعتباره في النهاية عمل بشري بالرغم مما يدعيه من معرفته بنوايا الله ومقاصد رسوله.
‏وفي النهاية استغل هذا المصدر ‏حقيقة أن القرآن والسنة نصوص صامتة تحتمل تأويلات عديدة لكي يصبح هو المرجع الرسمي والوحيد لفهم الإسلام المتداول بينما توارى المصدران الأساسيان وهما القرآن والسنة خلف حواجز وأسوار عالية من التفسيرات والمذاهب والفتاوى وتحول الدين من نصوص سهلة نزلت الى مجموعة بسيطة من البدو إلى لوغاريتمات معقدة لا يقوى على فهمها إلا فقهاء وعلماء متمرسين، وويل لمن يحاول أن يجتهد في أي قضية دينية من خارج المؤسسة الدينية. ومع الوقت بدأ نفوذ المؤسسة الدينية في التمدد ليشمل مسؤولية منح الشرعية للاختراعات العلمية الجديدة والعمليات المصرفية والأنشطة الفنية والرياضية. ورجال الدين هنا في غاية الدهاء حيث تصدر أحكامها المتعلقة بالأنشطة والمجالات التي لا يلمون بتفاصيلها الفنية ويؤثر فيها الواقع بشكل واضح ‘تصد عادة وفق أدلة ظنية وليست قطعية بحيث يسهل تعديلها أو التراجع عنها عند الضرورة. أما الأحكام التي تصدر بأدلة قطعية فإنك لا تجد فيها أي أثر للواقع لأنه يصعب تغييرها وهي عادة أحكام نظرية لا يبالي الناس بها. ‏ونود أن نؤكد هنا على أننا نتحدث عن العالم العربي الإسلامي وليس عن العالم الإسلامي ككل حيث نجحت دول ذات غالبية مسلمة مثل تركيا وماليزيا واندونيسيا في تحقيق تقدم جيد في سياساتها التنموية أفضل بمراحل من التجارب التنموية في العالم العربي. وهذا يعني أن مشاكل العالم العربي ليس سهلة الحل بالمرة.
الإصلاح الديني الذي ينشده الجميع هو الإصلاح الذي يحرر العقل الديني من قيوده لينطلق ويبدع دون خوف وهو الإصلاح الذي يجعل من الدين حارسا وضامنا لتمتع الناس بحقهم في الحياة الكريمة ويدعمهم في محاربة الاستبداد والفساد والقهر والظلم الاجتماعي بدلا من أن يدعوهم إلى الصبر والدعاء مقابل أجر كبير ينتظرهم في العالم الآخر. ولا يحتاج الأمر إلى فراسة كبيرة للقول بإنه عندما يتعايش الدين ورجاله في وئام وانسجام ودون تبرم مع كل ما حولهم من فساد واستبداد وظلم فإن الدين يفقد وظيفته وما هو منشود منه في إصلاح وإسعاد العباد.
هذا هو الإصلاح الديني الذي يصبو الناس إليه ويتحدثون عنه طوال قرون دون أي تقدم في الواقع المعاش بل إن أحوال الناس تزداد تدهورا من جيل لآخر ولا يسلمون بعضهم البعض سوى رايات العار والشعارات الجوفاء والخطب العصماء.
والخلاصة أن الناس لا تتقدم إلا بعقولها وفي ظل التضييق المفروض على العقل العربي واستحالة فك الحصار المضروب على الإنسان العربي من قبل التحالف الجهنمى وغير المعلن بين السلطة والدين ورأس المال والموروث الثقافي الذي أوضحنا أعلاه فإنه لا أمل في حدوث إي انفراج في مسألة الإصلاح الديني في العصر الحالي. ‏

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.