نور الشيخ يكتب | الاستحواذ الثقافي

0

يسير الصديقان في مسيرة يتبادلان فيها الحديث فيتأثر أحدهما بالأخر وتنتهي المسيرة بمحاولة محاكاه أحدهما للآخر نظرًا لأن هذا الأخر يمتلك أدوات التأثير والكاريزما والمعلومات الناقصة عند الصديق فيكون صاحب الكاريزما هو المؤثر والأخر هو المُتأثر وهذا ما يسمي بالاستحواذ الثقافي.
الاستحواذ الثقافي هو تأثير ثقافة في أخري حتى تسيطر عليها فتمحو الثقافة الأقوى الثقافة الأضعف، فتندثر ثقافة وتعُم أخري وتسيطر ولكن كيف تقاس قوة وضعف الثقافات؟ كيف يمكن ان تنجو ثقافة من سيطرة أخري عليها؟

الثقافة، بمعناها الواسع كما أُتفق عليه في إعلان مكسيكو 1982 (اليونيسكو)، أنها: “كل السمات الروحية والمادية والعاطفية، التي تميز مجتمعًا بعينه، أو فئة اجتماعية بعينها. وهي تشمل: الفنون والآداب وطرائق الحياة. كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان، ونظم القيم والمعتقدات والتقاليد”.

روح المجتمعات وشخصيتها تتكون من هذه الثقافة المُكونة للسمات والسلوكيات الخاصة بكل إقليم ومجتمع، فيتماسك المجتمع بقدر شدة الحفاظ على هذه المركبات ويضعف بقدر التفريط فيها، وترسخ وتستقر الثقافات داخل المجتمع الواحد في إطار من القيم والتقاليد ومؤسسات التربية وعلى رأسهم الأسرة، وتنتشر بوسائل الانتشار المختلفة مثل الوسائل الإعلامية القديمة والحديثة، والتوريث بين الأجيال، فالثقافات تورث كما تورث الصفات الوراثية. فكيف تستحوذ ثقافة على أخري؟

دائمًا ما يكون الأقوى هو صاحب اليد العليا فالدولة المصرية القديمة صاحبة الحضارة والثقافة الأولي كانت المؤثرة والمحركة لكل الحضارات والشعوب التالية حتى في ظل الغزوات والاحتلالات العديدة التي تعرضت لها الدولة القديمة والحديثة لم يرتق مستوي التأثر بالثقافات الأخرى حد الخطر. لكن مع انتشار وتعددية وسائل الإعلام المختلفة وترسيخ مفهوم الموضة واستخدام نجوم المجتمعات الفنية والرياضية في الإعلان عنها ثم تعزيز مفهوم “الترند” في البيئة الرقمية لم يعد التأثير للأقوى ولكن للأغرب والأكثر انتشارًا، فقد اختلفت موازين الحرب والتقييم.

لم تعد الثقافة تقيم بمقدار قدرتها علي ارتقاء الأمم ولكن تقيم بمقدار كثرة المشاهدات والربحية والتسويق التجاري، نظرًا لأن المجتمع الرقمي يشبه الجُزر المنعزلة كل يعيش في جزيرة مكونة من عدة آلاف من الأصدقاء المتشابهين الباحثين عن “الترند” للصعود بقمة المجتمع والارتقاء بالتصنيف الاجتماعي كل في مجاله. علمًا بأن ظاهرة “الترند” هذه لا تتعدي مئات الآلاف من المتابعة ولكن تأثيرها يصل لأبعد من الرقم بفضل نظرية التكتل، وهي تحرك شيء بسيط جدًا بالكثير من الأيادي من مكان إلى آخر، فالموضة و”الترند” لا يقوي شخص واحد علي حملة فإذا ما حملة سقط وخسر فالأمر يلزم له قائد وهو الشخص الشهير سواء كان الفنان أو الرياضي أو “البلوجر” أو “الإنفلونسر” أو قوة التطبيق ذاته كما “التيك توك” وخلافة، فسرعان ما يتبعه الآلاف من الجماهير ظنًا منهم أنه لابد من ركوب “ترند نوح” كما سفينه نوح لينجو من براثن عدم التميز لهذا اليوم.

معيار التميز في حد ذاته أصبح مختلف فالتميز هو أن تتفرد بشيء مميز ومختلف وراقي ولكن التميز اليوم أصبح هو أن تكون في ركب القطيع تسير نائمًا لاهثًا خلف ما يسير خلفه الأخرون، ظنًا بأن سفينه “الترند” هي التميز بعينة لعدد محدود من البشر، حتي أصبح هذا التميز هو اللاهي الأكبر عن الإنتاج والإبداع والتفرد والنجاح.
فيكفي أن ترتدي أفخر الثياب من أروع الماركات عن تكون صاحب عمل أو وظيفة، ويكفي أن تتخرج وتسهر في أماكن يرتادها الجميع والمشاهير عوضًا عن النوم مبكرًا لتذهب للعمل في موعد منضبط، فيكفي أن تبدو غنيًا على أن تكون غنيًا فعلًا، هذا ما يحدث عندما تستحوذ ثقافة “الترند” على المجتمعات.

* نور الشيخ، عضو تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.