ولاء عزيز تكتب | مصر والاتحاد الأوروبي

0

لم تكن العلاقة بين مصر والاتحاد الأوروبي يومًا علاقة عابرة أو محصورة في أطر بروتوكولية، بل هي علاقة تقاطعت فيها الجغرافيا مع المصالح، واصطدمت فيها السياسة بالتاريخ. لكن ما نشهده اليوم هو خروج هذه العلاقة من أروقة الدبلوماسية التقليدية إلى ساحة تحالف استراتيجي جديد، تحالف يعاد تشكيله تحت ضغط التحديات الدولية والإقليمية، من الحرب في أوكرانيا إلى الانفجار الديموغرافي في إفريقيا، ومن أزمات الطاقة إلى ملفات التهجير.
في السابق، كانت أوروبا تنظر إلى مصر باعتبارها جارة جنوبية يلزم احتواؤها سياسيًا واقتصاديًا لدرء المخاطر القادمة من الجنوب. كانت العلاقة أشبه بعلاقة وصاية: أوروبا تمنح، ومصر تستجيب، في إطار اتفاقيات الشراكة الأورومتوسطية، أو سياسة الجوار الأوروبية. لكن هذا النموذج القديم فقد فعاليته. أوروبا، بعد أزمات الطاقة واللاجئين وحرب أوكرانيا، باتت تبحث عن شركاء قادرين على الصمود والمناورة، لا عن أطراف بحاجة إلى المساعدة. ومصر، بما تمثله من ثقل سياسي في الإقليم، وبنية تحتية متطورة، وسوق ضخمة، عرفت كيف تقدم نفسها بوصفها “شريك ضرورة”، لا “جار هش”.
يبدو واضحًا أن التحالف المصري الأوروبي الجديد، يتحرك على أرضية اقتصادية لا تقوم على المعونات، بل على تبادل المصالح. في 2024، أعلن الاتحاد الأوروبي عن رزمة دعم مالي لمصر، تصل إلى 7.4 مليار يورو، لكن الفارق هذه المرة، أن الأموال ليست هبات أو قروض إنقاذ، بل استثمارات في ملفات بعينها: الطاقة المتجددة، الهيدروجين الأخضر، البنية التحتية الرقمية، وربط مصر بالشبكات الأوروبية. مصر تتحول تدريجيًا إلى محطة عبور رئيسية للطاقة النظيفة نحو أوروبا، تمامًا كما أصبحت منصة لتصدير الغاز الطبيعي بعد أزمة الطاقة الروسية.
في العقود الماضية، تعاملت أوروبا مع مصر كدولة تؤدي “دورًا وظيفيًا”: تأمين الحدود، ضبط الهجرة، والتعاون في مكافحة الإرهاب. اليوم، تغير المشهد. القاهرة باتت لاعبًا إقليميًا، يتوسط بين أطراف الصراع في غزة، ويقود مبادرات أفريقية، ويمتلك علاقات متوازنة مع القوى الدولية المتصارعة. الاتحاد الأوروبي، الذي يعاني من انقسام داخلي وتآكل في قوته السياسية الخارجية، بدأ يعتمد على مصر في تحقيق الاستقرار بشرق المتوسط، بل وأحيانًا في فتح قنوات اتصال مع أطراف لا يمكنه الحديث إليها مباشرة.
ملف الهجرة كان دومًا نقطة توتر. أوروبا تخشى تدفقات غير منظمة من الجنوب، ومصر كانت ترفض أن تكون “مخزن بشر”. الجديد أن الطرفين وصلا إلى صيغة ناضجة: لا مراكز لاحتجاز المهاجرين في مصر، لكن في المقابل دعم مالي وتقني لمشروعات تنموية تقلل من دوافع الهجرة. الاتفاق يعكس تطورًا نوعيًا في الفهم الأوروبي: لم تعد الهجرة تُحل بالأسلاك الشائكة، بل بالشراكة الاقتصادية. ومصر، بدورها، تستثمر هذا الملف سياسيًا واقتصاديًا بذكاء شديد.
ربما يبدو الطرح صادمًا، لكن المؤشرات تقودنا إليه. أوروبا، التي تفقد نفوذها في أفريقيا، بدأت تبحث عن “نقاط ارتكاز”جديدة في الشرق الأوسط. ومصر، المستقرة سياسيًا نسبيًا، تتحول تدريجيًا إلى “منصة أوروبية” في الإقليم. هذا لا يعني تبعية مصر لأوروبا، بل العكس: أن تكون مصر أحد مراكز صنع القرار المشترك في ملفات تتجاوز حدودها، من ليبيا إلى غزة، ومن البحر الأحمر إلى الساحل الأفريقي.
ما يحدث بين مصر والاتحاد الأوروبي، ليس فقط تطورًا في العلاقات الثنائية، بل هو مؤشر على إعادة تشكيل النظام الإقليمي بأكمله. فحين تصبح مصر لاعبًا اقتصاديًا في الطاقة، وشريكًا أمنيًا في الاستقرار، وجسرًا سياسيًا بين الجنوب والشمال، فإننا لا نتحدث فقط عن تحالف، بل عن ولادة مشهد جديد، قد يُعاد فيه رسم الخريطة من القاهرة لا من بروكسل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.