وليد عتلم يكتب | السودان .. واقع تعددي وتدخل خارجي

0

الأزمة في السودان ليست وليدة اليوم، وهي نتاج مباشر لفرض الديمقراطية على المجتمعات من الخارج دون مراعاة لطبيعة وخصوصية تلك المجتمعات والهويات، لذلك هي أزمة مرجعها عديد الأسباب؛ أول هذه الأسباب الرئيسية هو أزمة الاندماج الوطني في السودان؛ لم يمتلك السودان قبل الاستقلال أركان الدولة الوطنية المتجانسة، وإنما شهد تنوعا وتعددية دينية وثقافية، إثنية وقبلية وعشائرية. والأزمة في السودان، ليست “أزمة حالة” ما بين المكون المدني والمكون العسكري، وليدة أحداث ما بعد سقوط نظام البشير. أم هي أزمة قديمة وعميقة قِدَم السودان نفسه؟!
المتأمل للواقع السوداني وطبيعة المجتمع هناك؛ يدرك دونما عناء أن السودان لا يزال يعاني من مشكلة تحقيق الاندماج الوطني وبناء الأمة الجامعة بين مكوناته المتعددة، فالسودان يعد انعكاسا مصغرا للقارة الأفريقية؛ حيث التنوعات والتباينات المتعددة ثقافيا، وعرقيا، ودينيا، ولغويا.. فنجد التعددية العرقية تقسم المجتمع السوداني إلى جماعات عدة مثل: العرب، البجا، النوباويون، النوبيون، الدارفوريون، وأفريقيو الغرب، ثم المجموعات الأفريقية في الجنوب ما قبل انفصاله.
لغويا: ينطق السودان باللغات العربية، الكوشية، والكردفانية في الشمال، والدنكا والزاندى، والنوير وغيرها من اللغات الأفريقية جنوبا.
ثقافيا: رغم أنه يمكن اعتبار الشمال في السودان ذا ثقافة موحدة استنادا إلى عاملي اللغة العربية والدين الإسلامى، فإن ذلك ليس صحيحا في مطلقه.. على سبيل المثال كل من جماعات البجا والنوبيين تري نفسها مختلفة ثقافيا عن باقي الجماعات في الشمال، وفي الشمال الغربي توجد الجماعات والقبائل المسلمة غير العربية مثل: الفور، المساليت، والزغاوة، أما الشمال الشرقي فأغلبه من قبائل البجا المسلمة غير العربية، ثم جماعات النوبا في جبال النوبا في جنوب إقليم كردفان.
دينيا: نجد إلى جانب الإسلام والمسيحية، جماعات أخري تعتنق المعتقدات الأفريقية الطبيعية في مختلف أنحاء السودان، وحتي بين المجموعة التي تعتنق الإسلام نجد العديد من الطرق الصوفية، مثل المهدية، الختمية، القادرية، والأحمدية، والإدريسية وغيرها من الجماعات والطرق.
اقتصاديا: عاني السودان من التفاوت في معدلات التنمية بين أقاليمه المختلفة، ومن ثم بين جماعاته المتعددة؛ حيث هيمن السودانيون العرب في الشمال الأوسط على القوة السياسية والإدارية والاقتصادية عقب الاستقلال، وذلك على حساب التنمية وتوزيع السلطة والموارد مع الأقاليم الأخرى، وهو ما أثار حفيظة الجماعات والأقاليم الأخري وخلق حالة من عدم الرضا والإحباط سائدة منذ نهاية الخمسينيات.
وعلى هذا؛ فظروف البيئة الطبيعية للسودان واتساع مساحته، وسياسات الفترة الاستعمارية، وما تلاها من سياسات الحكم الوطني المتعاقب ما بعد الاستقلال، كلها عوامل أدت إلى ترسيخ وتعميق الواقع التعددي للمجتمع، وإبراز التمايزات والتناقضات على النحو الذي أثر على الأوضاع السياسية والاقتصادية المعاصرة في السودان.
انطلاقا مما سبق يمكن الفصل بأن أصل الأزمة في السودان هو الغياب النسبي وأحيانا التام للإجماع على القيم، ما ينتج عنه من صراع وتنافس بين المكونات المختلفة للمجتمع في السودان، حيث صعوبة التوصل إلى أي إجماع وطني سوداني حول مختلف القضايا نتيجة لاختلاف المصالح والأهداف حتى داخل الجماعة الواحدة، وهو ما يشير إليه مختبر التاريخ بوضوح، إذ فشل السودان منذ استقلاله وحتي الآن في تحقيق أي إجماع وطني فيما يتعلق بقضاياه الرئيسية، مثل: هوية الدولة وشكلها، طبيعة نظام الحكم، وكذلك نمط توزيع السلطة وإدارة الموارد.
كذلك الفشل الكبير والمتعاقب لأنظمة الحكم المختلفة ــ مدنية كانت أو عسكرية ـ في إقرار وصياغة خطة اقتصادية ـ اجتماعية عادلة ووطنية تشمل جميع الأقاليم، حيث تتعارض المصالح دائما، تختلف وتتقاطع، ومن ثم تفشل الخطط والحلول.
بالتالي أزمة السودان أزمة اندماج وطني وصراع على الثروات بالأساس، تطور من الصراع على مناطق الرعي للصراع على البترول وتهريب الذهب.
هذه التعددية والإثنية القبلية انعكست على مكونات الجيش السوداني وأجهزة الأمن السودانية بما يعضد من الولاءات الفرعية لتلك الأجهزة ومكوناتها وميليشياتها على حساب الولاء الوطني للدولة السودانية، وهو ما يتجسد في شكل واضح في ميليشيات الدعم السريع، وغيرها من الميليشيات العشائرية.
السبب الثاني في أزمات السودان المتتالية يرجع للتدخل الدولي المتعدد في المشهد السودانى، والذي أدي إلى الأزمة الهيكلية التي يعانيها السودان منذ الاستقلال؛ متخذة شكل حروب مدمرة في مناطق شاسعة في الجنوب والغرب والشرق، وجاء فشل مشروع الدولة الوطنية بعد الاستقلال، وعدم قدرته على تحقيق الاندماج الوطنى، وكذلك العوامل الاقتصادية، وتقسيم الثروة والموارد في البلاد، فضلا عن دور المتغير الخارجي في دعم أطراف الصراع، والتدخل في تفاعلاته المختلفة، لتشكل كلها المتغيرات الأهم في دوافع حالة التناحر في السودان، وتتباين مواقف الدول الإقليمية والدولية من القضايا السودانية على حسب أهدافها واستراتيجياتها، فثمة اهتمام بتلك القضايا من مؤسسات العمل الأفريقي المشترك، ودول الجوار، والدول الأوروبية التي تعد الشريك التجاري الأول للسودان، والدور الصيني المتزايد في إطار التنافس القطبي الدولي في أفريقيا، وكذلك كل من التدخلات الروسية والإيرانية، وكذلك الإثيوبية، وجميعها قوي تسعي للحفاظ على مصالحها في المنطقة والقارة من خلال التدخل بالسودان، إضافة للدور الأمريكي البارز، وذلك في ضوء ما تمثله المنطقة من أهمية خاصة في الاستراتيجية الأمريكية في الحرب على “الإرهاب”، فضلا عن ثروات المنطقة المتعددة، لذلك فالقوي الدولية والإقليمية تعمل على إعادة هندسة المنطقة من الناحية الجيوبوليتيكية؛ بما يحقق لها أهدافها ومصالحها التوسعية، والقضاء على الحركات الإسلامية في المنطقة، ويبدو أن مستقبل التناحر والحروب السودانية لا يخرج عن واحد من سيناريوهات ثلاثة: فإما التركيب القائم على معايير الانتماء الجغرافي بعيدا عن الهوية الدينية، وإما تفكيك وتقسيم السودان إلى مجموعة من الكيانات ذات ارتباطات إقليمية مختلفة، وإما إعادة الفك والتركيب معا.
والحل قد يكون بالتركيز على إيجاد صيغة للإجماع الوطني السودانى، بهدف تشكيل هوية وطنية جامعة تدعم عملية اندماج وطني في إطار إجماع نسبي على مختلف القضايا، يؤسس لتحول وانتقال ديمقراطي سليم ومستقر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.