أحمد صابر يكتب | الصراعات والقطاع العام

0

لا نزال حتى يومنا هذا نخوض جدلية القطاع العام والخاص، وأيهما يجب أن يلغي الآخر ويعلقه على حبل المشنقة، متجاوزين بذلك الغرب الذي لم يعد يعتمد على القطاع الخاص أصلًا، وتحفظ الشرق الذي انفتح على العالم ودخل السوق الحرة منذ ثلاثة عقود، أما نحن فلا نريد أن نفهم أهمية سير القطاعين معًا، خاصةً في هذه السنوات من أجل الوصول إلى اقتصاد صحي، ليس عرضةً للانهيار بفعل الأزمات ولا عرضةً للانغلاق والتخلف بفعل السياسات الحمائية.

منذ فترة أصدر البنك الدولي ورقة بحثية عن أداء شركات القطاع العام في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ودول آسيا الوسطي، وركزت الورقة علي نسب الخسارة في شركات القطاع العام في هذه الدول، في محاولة لاستنتاج أسباب هذه الخسارة، وذلك لما تفرضه التحديات الناتجة عن فيروس كورونا، يضاف إليها الأزمات الحالية في سلاسل التوريد وارتفاع أسعار الطاقة، في رغبة من الحكومات لتقليل الخسائر والأموال المهدرة والتي يذهب جزء منها لدعم بعض الشركات المملوكة للدولة.
في البداية لم يعد هناك اختلاف حول أهمية شركات القطاع العام في توفير السلع الأساسية وتحقيق الأهداف الاستراتيجية للدولة، في محاولة لمعالجة عدم كفاءة السوق المتمثلة في سوء التوزيع وعدم الاهتمام بالأهداف الاجتماعية أو أهداف الأمن القومي كأولوية لها، وحتي لا أفتح بابًا للجدال الذي عفا عليه الزمان، فإن الولايات المتحدة بنفسها خصصت ولا زالت تخصص مليارات الدولارات للشركات التكنولوجية من أجل دفعها لأداء مهام متعلقة بالأمن القومي كإنتاج أشباه الموصلات، الأمر الذي عجز السوق عن توفيره لولا تلك الإغداقات المالية، وبالتالي فإن وجود شركات مملوكة للدولة يحقق أهدافًا استراتيجية خاصةً في أوقات الأزمات أمر لا جدال حول أهميته، هذا بالإضافة لكثرة أعداد الشركات المملوكة للدولة في دول غربية كألمانيا، والتي وصلت لمئات الشركات وأثبتت نجاحها، ما يثير التعجب أن هناك من يطالبنا بأن نكون ملكيين أكثر من الملك نفسه!
رغم أهمية القطاع العام، إلا أن الأمر ليس بهذه السهولة، هناك العديد من الشروط والإصلاحات التي يجب توافرها حتى لا يصبح القطاع العام عبئًا علي الدولة بدلًا من أن يمثل مصدر قوة واستقرار لها.
كي نتعلم من تجارب الدول الأخرى، فإن الصين علي سبيل المثال، والتي أصبحت أفضل مثال علي قدرة الاقتصاد المختلط علي بناء دولة قوية، عانت في البداية من إهدار الأموال العامة نتيجة استشراء الفساد في شركات القطاع العام، القصة بدأت عندما شرعت الصين في التحول نحو السوق الحرة، أصبحت وقتها شركات القطاع العام هي الوسيط بين الحكومة وبين شركات القطاع الخاص، وبدأت بذلك تلك الشركات تمارس الفساد وتبيع الموارد المخصصة لها مجانًا لمن تريد، كان ذلك بسبب السلطات الواسعة التي حصلت عليها تلك الشركات في البداية، وغياب الشفافية والرقابة عليها، ولما فطنت السلطات الصينية لتلك المشكلة بدأت في معالجة الوضع بسياسات أكثر حزمًا، ثم نجحت في الوصول إلي اقتصاد مختلط قوي تستفيد به من قدرة السوق علي زيادة الثروة وقدرة القطاع العام علي التصدي للأزمات وتحقيق الأهداف الاستراتيجية.
كل هذه التجارب تثبت أن المشكلة في كل الدول ليست بالقطاع العام في حد ذاته، وإنما مشكلة قوانين وسياسات وإدارات، فنجاح القطاع العام يتطلب شروطًا، هذه الشروط والمشكلات تطرقت إليها الورقة البحثية لصندوق النقد الدولي وسوف نتناول أبرزها سريعًا.
أولًا: مشكلة عدم وضوح مفهوم الشركات المملوكة للدولة، فعدم تحديد الاستراتيجية التي تتبناها الدولة حول هذا المفهوم وأسس اختيار القطاعات التي تشارك بها ومتي تقوم بطرح هذه الشركات في البورصات وطريقة معاملة الشركات، تحديد كل هذه التفاصيل أمر مهم حتى لا يصبح التدخل في الاقتصاد لمجرد تحقيق أرباح دون وجود أهداف استراتيجية أخري تستلزم هذا التدخل.
ثانيًا: المنافسة الحرة، وهل ما إذا كانت الشركات المملوكة للدولة سوف تعامل بنفس القوانين والسياسات والضرائب وسياسات الإفلاس، دون إغداق الأموال عليها وترك القطاع الخاص في مواجهة الأزمات، أو تقديم التيسيرات لها على حساب الشركات الأخرى المنافسة، يمكن أن يؤدي هذا إلى إنهاء المنافسة وزيادة اعتمادية الشركات المملوكة للدولة على الدعم المقدم وبالتالي إلى الضعف والإفلاس.
ثالثًا: يجب استكمال حوكمة هذه الشركات المملوكة للدولة وتوفير كافة البيانات حول الأداء بشفافية كاملة وتعزيز الرقابة عليها، وهو الأمر الذي تحسن مؤخرًا في مصر وفقًا لدراسة صندوق النقد الدولي.
رابعًا: عدم إقحام الشركات المملوكة للدولة في أنشطة غير مالية تقوم بها بدلًا من الحكومة، وتعويض كافة الشركات عن هذه الأنشطة إذا ما وجدت.
خامسًا: يجب علي الدولة تحديد ما إذا كانت الشركات تحقق الأهداف الاستراتيجية، ومتي تتدخل الدولة بتقديم الدعم، كما يجب تقديم استراتيجية واضحة لإنهاء تقديم الامتيازات لتلك الشركات، بالإضافة لتحديد الدور الاستراتيجي والانسحاب من القطاعات التي أثبت القطاع الخاص كفاءته بها.
إن وجود نحو 38% من المؤسسات المملوكة للدولة في مصر تتكبد خسائر وفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي أمر يستلزم إجراء مراجعات وفقًا للبنود المذكورة، ولا يستلزم حربًا على مفهوم القطاع العام بشكل كامل، وبالتالي فإن المعادلة يمكن أن تصاغ وفقًا لما يأتي:
بالنسبة لشركات القطاع العام التي تحقق أهدافًا استراتيجية وتتكبد خسائر سنوية، يجب إجراء مراجعات وإصلاحات في هذه الشركات على الفور عبر تغيير الإدارة وزيادة الرقابة، وتقليل الاعتماد على الدعم الحكومي، أو عقد شراكة مع القطاع الخاص.
بالنسبة لشركات القطاع العام التي لا تحقق أهدافًا استراتيجية وتتكبد خسائر سنوية، يكون الحل الأمثل هو بيع هذه الشركات. وبالنسبة لشركات القطاع العام التي لا تحقق أهدافًا استراتيجية وتحقق أرباحًا جيدة يمكن الإبقاء عليها مع تحسين البيئة التنافسية، وعدم تقديم امتيازات تضر بها مستقبلًا.
تحتاج مصر مزيدًا من الإصلاحات والدراسات حول شركات القطاع العام، فمن المحزن أن تشارك هذه الشركات بأقل من 1 في المائة فقط من الناتج المحلي وفقًا لدراسة صندوق النقد الدولي، بينما يتكبد ثلثها الخسائر التي تتطلب دعمًا حكوميًا يقتطع من رصيد التعليم والصحة في الموازنة، لابد من إعادة تقييم شامل لأداء هذه الشركات واتخاذ القرار وفقًا للأهمية الاستراتيجية للشركات ومعدل أدائها.

* أحمد صابر، عضو تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.