أسامة السعيد يكتب | ما حمى عرضك .. إلا جيشك
العالم يتغير من حولنا، وإن كنت لا تصدق، فأدعوك إلى متابعة مجريات الحرب الروسية الأوكرانية .. لا أريدك أن تغرق في تفاصيل البيانات العسكرية أو مئات المداخلات الإعلامية لصحفيين ومحللين وخبراء، ولكن أدعوك إلى تأمل بعض التصريحات المهمة والمواقف ذات الدلالة.
أول تلك التصريحات قول الرئيس الأوكراني فولاديمير زيلينسكي في الأيام الأولى للقتال وملامحة آسفة كسيرة: “لقد تركنا حلفاؤنا وحدنا في مواجهة روسيا”، وكان ذلك بعد ساعات معدودة عقب إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن بأن بلاده لن تقاتل الروس على أرض أوكرانيا أو في سمائها، وأنها ستكتفي بفرض عقوبات على موسكو، وإمداد كييف بما يعينها على الصمود!
التصريح الثاني جاء على لسان المستشار الألماني، أولاف شولتز ، بتخصيص 100 مليار يورو لتعزيز المنظومة الدفاعية للجيش الألماني، الذي رأى شولتز أنه ليس قادرا بوضعه الراهن على الوفاء بواجباته، وقال شولتز بنبرة حاسمة أمام نواب البرلمان الألماني (البوندستاج) إن الاستثمارات في مجال الدفاع هي “استثمار بشكل كبير في أمن بلدنا، من أجل ضمان حريتنا وديمقراطيتنا”.
هكذا يستيقظ “عملاق أوروبا النائم” من سباته بعد أكثر من سبعة عقود ليكتشف أن الأمور تتغير من حوله، ليدرك أن بناء القوة هو أفضل السبل لتحقيق السلام، وحتى لا يتصور البعض خطأ أن الجيش الألماني ضعيف، يكفي أن تعرف أنه يحتل المرتبة السادسة أوروبياً، والخامسة عشرة عالميا، في تصنيف أقوى جيوش العالم لعام 2021!
بناء القوة الشاملة للدولة، وفي القلب منها القوة العسكرية، ليس إذن نوعا من الترف أو محاولة للاستعراض، كما يحاول أن يروج المغرضون وأعداء الدولة الوطنية، بل هي ضمانة حقيقية للحفاظ على مصالح الدول، ومقدرات الشعوب، ومستقبل الأوطان.
لنتأمل مصائر الدول التي تركت أمر حمايتها بيد غيرها، انظروا مثلا إلى واقع أفغانستان التي لم يستطع جيشها – المصنوع أمريكيا- أن يصمد في وجه جحافل طالبان بعد عشرين عاما، وعندما حانت لحظة الحقيقة لملم الجيش الأمريكي متاعه، تاركا ملايين الأفغان تحت رحمة “طالبان” يواجهون مصيرا مجهولا!
تذكروا أن القرار الأول للاحتلال الأمريكي بعد غزو العراق في 2003، كان حل الجيش العراقي، كي يتسنى للغزاة الهيمنة على بلاد الرافدين، وهو ما مكن لاحقا إراهابيي “داعش” من الاستيلاء على عشرات الآلاف من الكيلومترات من أراضي العراق في بضعة أسابيع، وتكرر المشهد المأساوي في دول أخرى في ليبيا والصومال وغيرهما، وطبعا كان القاسم المشترك هو غياب جيش وطني قوي.
الحقيقة الساطعة التي تؤكدها حقائق التاريخ ومآسي الجغرافيا، هي أن بناء جيش وطني قوي مسألة تستحق أن يُبذل من أجلها الغالي والنفيس، ففي ساعات الأزمة لن تجد من يحمي ظهرك ويصون عرضك إلا جيشك.
وفي مواجهة الاضطرابات والمؤامرات، لن تجد درعا يصد عن وجهك الخطر، وسيفا يحصد رؤوس الفتنة سوى جيشك.
وفي قلب العواصف والكوارث والأزمات، لن يحميك ويدعمك ويزود عنك حتى آخر نفس وقطرة دم غير جيشك.
وفي ساعات الخطر، لن يُنفذ إرادتك ويُعلي رأيك، إلا قوتك وقوة جيشك، ففي عالم اليوم لا مكان إلا للأقوياء، وآذان العالم لا تسمع صوت الحق، إلا إذا كانت وراءه قوة تحميه.
* د. أسامة السعيد، نائب رئيس تحرير جريدة الأخبار.