محمد فرج يكتب | الهوية المصرية بين الوافد والموروث
الحديث عن الهوية الوطنية لمصر والمصريين لا يتوقف، وهو حديث – (وجدل) – قديم يتجدد باستمرار، قد يخفت لكنه لا يختفي، يتراجع لكنه يظهر بقوة بعد الأزمات والعثرات والتحديات والأخطار وكأنه قارب النجاة، ويظهر بعد الحروب والانتفاضات والثورات الشعبية وكأنه اكتشاف جديد، ويظهر في مؤلفات الكتاب والمفكرين والأدباء في صورة كتب ثقافية وتاريخية وأعمال أدبية ودرامية تعيد طرح الأسئلة والإشكاليات أكثر مما تقدم من إجابات، والمعنى هنا أن سؤال الهوية بطبيعته سؤال حاضر ومتجدد.
كما أن الهوية بطبيعتها مسألة عميقة، مركبة التكوين، وذات جوانب وزوايا ودرجات متعددة ومتنوعة، متجددة ومتطورة وغير ثابتة، وتحتمل – بل وتحتاج – الكثير من الاجتهادات الفكرية الجديدة: التاريخية والاجتماعية والثقافية والأدبية.
ما الهوية إذن؟ هو سؤال المبتدأ في هذه المسألة، إذ توجد هويتَان: هوية فردية، شخصية، لأفراد المجتمع، وهوية وطنية للمجتمع، للدولة بمكوناتها كأرض وشعب وحكومة، هوية وطنية للشعب والأمة.
الهوية الفردية، الشخصية، هي في صورتها الأبسط، تلك التي تظهر في بطاقة الهوية (الشخصية) للفرد، بما تنطوي عليه من معلومات تحدد الانتماءات الأولية، كالنوع وتاريخ الميلاد و موطنه (محل الميلاد والمركز والمحافظة)، والتعليم والعمل والعائلة والجنسية، وهي انتماءات وجذور تظهر الصورة الأبسط الخارجية للشخصية، لكن الهوية حتى في صورتها الفردية أعمق كثيرًا مما تظهره بطاقة الهوية من انتماءات وملامح خارجية للشخصية، ذلك أن الهوية لا تظهر في حقيقتها وعمقها إلا بظهور أبعادها وأعماقها الداخلية، أبعادها القيمية، مكوناتها الفكرية والثقافية، وهي قيم ومكونات لِلهوية لا تظهر إلا في الممارسة، في الحياة والعمل ومواجهة التحديات وظروف المعيشة في إطار العلاقات الاجتماعية، وهي قيم ومكونات لِلهوية تتكون عبر تفاعلات الجغرافيا والتاريخ.
كذلك فإن الهوية الوطنية لمجتمع ما، لشعب ما، لأمة ما، وهي هنا الهوية المصرية، هي ذلك المركب من القيم الفكرية والثقافية، والعادات والتقاليد والطِّباع والسمات والملامح الناتجة من أثر التفاعلات المجتمعية، الداخلية والخارجية، التي تكونت للأفراد والجماعات والفئات والطبقات الاجتماعية، وتبلورت في إطار حركة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي للشعب والأمة المصرية.
لكن ما الذي يجعل من مسألة الهوية الوطنية المصرية سؤالًا متجددًا؟ ولماذا يستمر الجدل والنقاش والاختلاف والاجتهاد حول سمات الهوية المصرية؟
هناك أسباب كثيرة، لكن سببين رئيسيين من بين هذه الأسباب يمكننا رصدَهُما، الأول: هو أن الهوية الوطنية المصرية نفسها مسألة عميقة ومركبة ومتعددة الأبعاد، متجددة ومتطورة، والثاني: هو أن المتحدثين والمتحاورين والمتجادلين حول الهوية المصرية أصحاب رؤى مختلفة، فهم من منابع فكرية وسياسية وثقافية متنوعة، وتؤثر هذه المنابع الفكرية والأيديولوجية والتوجهات السياسية على الزاوية التي ينظرون منها إلى الهوية، وقد يؤدي هذا الخلاف حول الهوية إلى إثراء الحوار، ويؤدي إلى اكتشاف زوايا جديدة للرؤية، إذا اتسم – قدر الإمكان – بالموضوعية والقدرة على اكتشاف أهم ما يميز الهوية الوطنية المصرية، المتمثل في تنوع وتعدد وثراء الثقافات والمنابع التي بلورت وصاغت وكونت الهوية المصرية عبر القرون.
تتميز الهوية الوطنية المصرية بثراء تكوينها عبر التفاعل الخلاق بين الوافد والموروث، فقد كان هذا التفاعل الخلاق أداة للتغيير والتطوير لكل من الثقافات الوافدة والعادات والتقاليد الموروثة، ولم تكن (كل) الثقافات الوافدة ثقافات غازية أو قادمة مع الحملات الاستعمارية العسكرية العثمانية والبريطانية والفرنسية التي تعرضت لها مصر، بسبب موقعها الجغرافي الاستراتيجي بين ثلاث قارات هي آسيا وأفريقيا وأوروبا، فقد جاءت الثقافات أحيانًا عبر إرسال البعثات العلمية للمصريين إلى أوروبا مع عصر محمد علي، واحتكاك المصريين بالثقافات الغربية ونقل بعض مكوناتها بعد عودتهم، كتبًا أو أدبًا مكتوبًا أو شفاهيًا للمصريين، هكذا فعل رفاعة رافع الطهطاوي والشيخ محمد عبده وبيرم التونسي والدكتور طه حسين، وغيرهم من الكتاب والمفكرين الذين كتبوا وترجموا وصنعوا جسرًا من التفاعل بين عادات وتقاليد وثقافات المصريين الموروثة وثقافات شمال البحر الأبيض المتوسط.
كذلك فقد تفاعلت ثقافات المصريين وعاداتهم وتقاليدهم مع الثقافات الوافدة عبر (الصدمة الحضارية) مع قدوم الحملة الفرنسية على مصر والشام، لم يخضع المصريون للأهداف العسكرية للحملة، وخرجوا في ثورتي القاهرة الأولى والثانية رفضًا للاحتلال، ومارسوا إرادتهم الحرة، لكنهم في الوقت نفسه أضافوا لهويتهم عناصر ثقافية جديدة، تأثرًا بالصدمة الحضارية القادمة مع المدافع والقنابل، والنابعة من الصمود ومقاومة المستعمر، وسعيًا من النخبة لاستيعاب التطور القادم مع المطبعة، وزيادة المعرفة بتاريخ مصر القديمة عبر فك رموز حجر رشيد.
وهكذا – وعبر التفاعل الخلاق – لم يظل الوافد الثقافي كما هو، وتمت إضافته كعنصر جديد إلى ظاهرة التنوع التي تميز الهوية المصرية، ولم يعد الموروث الثقافي مشدودًا مع العادات والتقاليد نحو الماضي، أو معزولًا عن العلم والمعرفة الجديدة.
وقد أدى هذا التفاعل الخلاق إلى أهم ما تتميز به الهوية المصرية، وهو التنوع والتعدد الثقافي، فالهوية الوطنية للمصريين تنطوي على عدة ثقافات تصنع تنوعها، وهو تنوع ثقافي نابع من التنوع الذي شهده التاريخ المصري العريق، منذ قدماء المصريين، والموقع الجغرافي الذي أنتج عبقرية المكان ( وفقًا لِتعبير الدكتور جمال حمدان في كتابه شخصية مصر، دراسة في عبقرية المكان)، والذي جعل من مصر جسرًا لتفاعل العديد من الثقافات، وممرًا للعديد من الهجرات البشرية و الغزوات الاستعمارية والحملات العسكرية.
لكن هذا الموقع وهذا الجسر وهذا الممر، لم يكن بقادر على أن يكون بوتقة للتفاعل الثقافي الفعال، ولا بوتقة لتكوين الهوية الوطنية التي تتسم بالتنوع الثقافي، إلا لأن عوامل الجغرافيا والتاريخ، خاصة مع وجود نهر النيل، قد وضعت الأساس الاجتماعي والسياسي لضرورة وجود الدولة الوطنية المركزية المصرية القديمة، أقدم دولة مركزية في التاريخ، بِوظائفها الهندسية لضبط النهر، ووظائفها الاجتماعية والثقافية والعلمية وما أنتجته من منظومات قيمية اجتماعية وثقافية وعلمية، ووظيفتها الوطنية ببناء جيشها الوطني لمواجهة الحملات الاستعمارية، فقد كان لوجود هذه الدولة المركزية أعظم الأثر في تمكين المصري القديم من بناء أساس ثقافي متين، قادر على التفاعل مع الثقافات الوافدة واستيعابها والتأثير فيها.
لذلك تميزت الهوية المصرية – خاصة في فترات نهوضها وتألقها – بالقدرة على الإضافة والتطوير والتقدم، فمع ثقافة مصر القديمة، المشهورة بالفرعونية (وهو خطأ شائع)، تفاعلت الهوية المصرية وأضافت إلى أعمدتها ( وفقًا لِتعبير الدكتور ميلاد حنا في كتابه الأعمدة السبعة للشخصية المصرية) منتجات التفاعل مع ثقافة المرحلة البطلمية (حكم بطليموس وكليوباترا) في الحقبة اليونانية الرومانية، وثقافة العصر القبطي، وثقافة الحقبة العربية الإسلامية، وتفاعلت مع ثقافة البحر الأبيض المتوسط، والثقافات الإفريقية، وأضافت مع منتصف القرن العشرين في تفاعلها مع الدول العربية، خاصة مع ثورة يوليو و عصر عبد الناصر، بعدًا سياسيًا وثقافيًا عروبيا.
التنوع إذن هو الأساس المتين للهوية المصرية، وهو أساس قوة وتقدم الأمة المصرية، لكن الهوية في فترات التراجع تتعرض لمحنة الصراع بين مكوناتها، حيث تعمل بعض القوى من الداخل أو من الخارج على تغليب مكون ثقافي معين على غيره من الثقافات، والدخول في صراع مع المكونات الأخرى، منتجًا نزعات التعصب الطائفي والعرقي والعنصري، ومحاولًا تفريغ الهوية المصرية من تنوعها الوطني المستقبلي، وإدخالها إلى حلبة صراع الثقافات، وحروب الطوائف.
لكن المصريين – في فترات الصعود والنهوض الوطني – قادرون على الحفاظ على هذا التنوع، باعتباره مصدرًا لِقوة الهوية المصرية، وقدرتها على التفاعل الخلاق بين الوافد والموروث الثقافي، وأساسًا صلبًا للتجديد والتطوير والتحديث، السياسي والاجتماعي والثقافي.
* محمد فرج، الأمين العام المساعد لحزب التجمع.