مظهر محمد صالح يكتب | البجعة السوداء .. حقيقة الجدل الاقتصادي

0

يؤشر كتاب “البجعة السوداء The black swan “بقلم العالم العربي الامريكي طالب نسيم والصادر في نيويورك في العام2007 كيف ان الامور الحياتية والاقتصادية تنقلب فجاة خارج توقعاتها (ولاسيما ان الكتاب قد صدر قبل عام واحد من حصول ازمة الرهن العقاري الامريكية والتي اودت بالاقتصاد العالمي في العام 2008 ).

كما يعكس الكتاب في الوقت نفسه ان ثمة عمل فكري عميق يسير نحو تلمس آفاق التطور المعرفي في تفسير سلوك الافراد والمجتمعات الانسانية واندلاع احداثها وثوراتها بصورة مفاجئة خلاف ما هو متوقع له زمنيًا .اذ كانت المجتمعات الاوروبية في القرون البعيدة الماضية تعتقد ان البجع ألأبيض هو الوحيد على ظهر الأرض ولابديل له في اللون ، الا ان البشرية تفاجأت بمرور الوقت ان البجع الأسود اللون ربما يفوق أعداد البجعات البيضاء. وهكذا تنقلب التوقعات والمعتقدات للكثير من الظواهر الكونية والسلوكية.
قراءت الكتاب آنفًا بشغف كاقتصادي يبحث عن تطور الحقيقة الاجتماعية الاقتصادية وانقلاباتها المفاجئة ذلك في العام ٢٠١٣ واكتشفت وقتها ومن خلاله ان ثمة امرين مهمين لابد من الاشارة اليهما، الاول ،هناك مفارقة فكرية في التحليل الاقتصادي كان يرددها استاذنا العالم الراحل ابراهيم كبة
في مادة الفكر الاقتصادي قبل اكثر من خمسين عام معلقًا : (ان التاريخ هو ليس كتابة وقائع يومية في تطور الحياة الانسانية evolutions فحسب وانما كتابة وتشخيص المنعطفات الحادة في التطور revolutions وهي الثورات (اي الانقلاب الحاد في التطور ) وان تاريخ الفكر الاقتصادي هو تاريخ الانعطافات وما تحدثه من تحولات اجتماعية واقتصادية والثاني وهو أمريمكن ان افسره شخصيًا وعلى وفق النظرية الاقتصادية الحديثة في تفسير التصرفات الاقتصادية للافراد والاسواق :مفاده ان السلوك الحياتي تتوافر اليه باستمرار قواعد معلوماتية متكاملة وتسمى (الكفاية المعلوماتية sufficient information )و ان التطور في مسارات العمل الانساني وسلوكياته
يخضع دومًا لمتغير (عشوائي -stochastic element) يعبر عن التطور الطبيعي للتصرف الاجتماعي، وان دخول معلومة (جديدة) أو خروج معلومة(قديمة) لا يؤدي سوى الى تصحيح المسار في تلك التصرفات البشرية دون ايقاف تطورها الطبيعي وتفكيرها الواقعي او تحقيق انحراف في مستويات التحكم بمستقبل الوقائع او ايقاف محاكاة حاضرها . ويتوزع المتغير العشوائي المذكور من الناحية الاحصائية بشكل (طبيعي normal):بوسط حسابي مقداره (صفر )ومعامل اختلاف ثابت variance مقدارهsigma square :وهو مايسمى بالضوضاء النقية او البيضاءwhite noise …وهو تعبير عن تحقق حالة التوقعات العقلانية للبشر وتمثل واحدة من اساسيات المدرسة الكلاسيكية المحدثة في الاقتصاد new classical التي ظهرت في سبعينيات القرن الماضي وتطورت في الثمانينيات منه( في اطار التحول المدرسي الانكلو -سكسوني في علم الاقتصاد وقت ذاك )لبيان ضعف السياسات الاقتصادية بسبب توقع نتائجها من صناع السوق ومتخذي القرارات فيه .وتؤكد المدرسة المذكورةً في ابجدياتها ان القرارات الاقتصادية للافراد والاسواق وغيرها بنيت على معلومات شديدة الكفاءة والوفرة وموديل اقتصادي يضم الثوابت الاقتصادية كافة.وبخلاف ذلك سنعيش على وفق(نظرية البجعة السوداء) أي سنخضع لنواقص معلوماتية خطيرة يعززها التصلب المعتقدي اوالتقوقع بمساحة معلومات تضيق وتتشوه وتلون القرارات الاقتصادية فيها اوغيرها من التصرفات السلوكية وتضعها خارج المألوف بمرور الوقت بسبب ضيق او نقص المعلومات incomplete base of information .بعبارة أخرى اخضاع انفسنا الى تشوهات في التفسير وضيق في الافق لنقص المعلومات واستمرار الدفاع الساذج عن تلك النواقص ومن ثم التحول الى التعايش مع مايسمىcolour noise او الضوضاء الملونة .واخطر ما يضاف الى الضوضاء الملونة في الفهم البشري في تفسير السلوك والوقائع الاقتصادية والاجتماعية وغيرها هو ذلك التصلب المعتقدي او الفكري (او الموديل الضعيف الثوابت )الذي يفتقر هو الاخر الى الكفاءة المعلوماتية والتمسك بنواقصها .فالضوضاء الملونة والتاثر بها سلوكيًا هي نمط من انماط الدوغما The
‏ dogma of faith اي التمسك باملاءات معتقدية بعيدةً عن تفسير واقع المسار الطبيعي لتراكم الاحداث والسلوك الانساني المطابق له (كالايمان الاعمى بدور ريوع النفط في العيش او اللاعيش) ازاءضيق قاعدة المعلومات الكافية في تفسير الوقائع واتخاذ القرارات الصحيحة .فالدوغما هي مرحلة في مسار التاريخ تمثل تمسك معتقدي جامد ناقص الكفاءة المعلوماتية يفتقر لاي موديل عقلاني يحاكي واقع الاحداث وتطورها .ومن ثم يكون منكسرًا في نتائجه لكونه انموذج يقوم على مبدا الضوضاء الملونة البعيدة عن الواقع و يخضع لوسط حسابي احصائي (لا صفري )(ومعامل اختلاف متقلب )خالي من الثبات في تفسير الاحداث خارج مساراتها التطورية الطبيعية .وهنا لابد من ان تسحق قوى التطور الطبيعية ذات (الضوضاء النقية غير الملونة) من النمط العقلاني في توقاتعه .وهي قوى ومتغيرات تقوم على قاعدة معلومات واسعة كفوءة (وتمتلك باستمرار موديل حقيقي )يحمل بذور الحاضر والمستقبل ويتحرك بدواليب التطور الطبيعي ويمتلك من القوة ما يخطى قوى الماضي مفجرًا شرارة التطور الطبيعي (كثورة اجتماعية او حصول انقلاب حاد في التطور )عند توقف عجلاتها الطبيعية مصطدمة بالضوضاء الملونةcolour noise (ذات التصلبات المعتقدية). وبهذا يصبح الدفاع عن الواقع المفروض شيء من الماضوية- passéisme وبمثابة قوة متهالكة فاقدة لديناميات الحياة او زخمها التطوري الطبيعي وبما يسمح للمجتمعات من خلال التحولات الثورية اقامة مستقبلها في الخير الاكبر للعدد الاكبر .اي بلوغ موضوع الحرية الخالية من قيد :الضرورات necessities او كسر ذلك القيد المتمثل بالضجيج الملون القامع لبناء الحريات.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.