عطا ضرغام يكتب | تراث الغناء العربي
يُعد كتاب (سفينة الملك..ونفيسة الفلك) الذي يعرفه الموسيقيون باسم”سفينة شهاب” نسبة إلي الشيخ شهاب الدين محمد بن إسماعيل المتوفي سنة 1273-1856 م، ويحتوي علي مئات من الموشحات بكلماتها ومقاماتها وإيقاعاتها، وهو أهم كتاب صدر في حينه، ومنه اقتبس مطربو وملحنو القرن الماضي، وظل معينًا لا ينضب لمن جاء بعدهم حتي اليوم.
ولم يصدر بعد هذا الكتاب النفيس كتاب في طبقته حتي أصدر الموسيقار المرحوم محمد كامل الخلعي كتابه الذي سماه “كتاب الموسيقي الشرقي”.. وبين كتاب الشيخ شهاب الدين وكتاب كامل الخلعي أكثر من ثمانين عامًا لم يصدر خلالها كتاب في الغناء والموسيقي،إلا كتاب “الموسيقي والغناء عند العرب” للعلامة المحقق أحمد تيمور باشا وبعض الكتب الكتب المدرسية الطابع للدكتور محمود الحفني، مثل كتاب “الموسيقي العربي”و” الموسيقي في الممالك القديمة”و”الموسيقي عند الفراعنة”.
وفي الثلاثين عامًا الأخيرة صدرت كتبًا قليلة عن الموسيقي العربية والغناء العربي مثل كتاب”أضواء علي الموسيقي العربية” لأحمد شفيق أبي عوف، وترجمة لكتاب المستشرق البريطاني هنري فارمر”تاريخ الموسيقي العربية” وكتاب”الأغاني والموسيقي الشرقية” لأحمد أبو الخضر منسي، وكتب تتناول تاريخ بعض كبار الملحنين المصريين،وأربعة كتب لكمال النجمي صدرت عن كتب الهلال بين سنة 1966وسنة 1972 ،ثم كتاب له عن التراث القديم من جزئين عنوانه”يوميات المغنيين والجواري”.
أما بقية الكتب التي صدرت خلال الثلاثين عامًا الأخيرة فكلها- تقريبًا- تتناول الموسيقي الأوربية، ولا شأن لها بالموسيقي العربية، مثل كتاب”التذوق الموسيقي” لسعيد عزت،وكتاب” الثقافة الموسيقية” لصالح عبدون، وكتاب “التأليف الموسيقي” لسمحة الخولي- وهو ترجمة لا تأليف- وكتاب “قواعد الموسيقي الغربية وتذوقها” لمحمد محمود سامي حافظ..وكتاب “فن الأوبرا” لمحمد رشاد بدران..وبضعة كتب أخري تنقل مادتها من الكتب الأجنبية مثل كتاب”ريتشارد فاجنر” للدكتور فؤاد..وكتاب”الموسيقي السيمفونية” للدكتور حسين فوزي وكتب أخري تنحو هذا المنحي، وتخاطب القاريء باستعلاء، وتقدم له الموسيقي الأوربية بديلًا عن الموسيقي العربية، وتوحي تلميحًا أو تصريحًا أن مصير الغناء العربي والموسيقي العربية إلي سلة مهملات التاريخ أو إلي المتاحف علي أحسن تقدير.
هكذا جاءت حصيلة الزمن الممتد بين الشيخ شهاب الدين وبين المؤلفين المعاصرين الذين يمكن أن يقال إنهم لم يكتبوا شيئًا كثيرا في الغناء والموسيقي.
فكيف كانت حصيلة الزمن العربي الغابر الذي فيه الغناء العربي وشب واكتهل ثم علت به السن حتي شاخ وضعف، وأوشك أن يذهب بددا في غبار التاريخ.
ويُعد كتاب”كتاب النغم” أقد م كتاب وصل إلينا ومن كتب أسلافنا عن الغناء والموسيقي،ألفه يونس الكاتب” الملحن المغني الذي شهد أواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية، وسبق أبا الفرج الأصبهاني في مضمار التأيف عن الغناء العربي بمائتي عام او أكثر..ثم ألف يونس الكاتب عن الغناء والمغنيات الجواري في عصره كتابا سماه”كتاب القيان”..وقد أتم يونس تأليف كتابيه قبل ألف ومائتي عام.
وجاء الخليل بن أحمد الفراهيدي (718- 791م) بعد يونس الكاتب، فكتب في الغناء والإبقاع”كتاب النغم”، و”كتاب الإيقاع” إلي جانب مؤلفاته الرائدة في العروض والشعري واللغة.
ولم يبلغ رتبة الخليل بن أحمد في التأليف الموسيقي إلا إسحاق الموصلي الذي بعد الخليل بفترة قصيرة واستطاع- علي حد تعبير المستشرق هنري فارمر في كتابه عن الموسيقي العربية-“أن يخضع النظريات المتطاحنة في ممارسة الفن لنظام واضح”.
وجاء كتاب”الفهرست”لابن النديم أن لإسحاق الموصلي أربعين كتابًا في الغناء والتلحين والإيقاع وتاريخ الغناء والمغنيين..منها كتاب يسمي”كتاب الأغاني الكبير”.
وقد ضاعت هذه الكتب الأربعون كلها، ويمكن الترجيح انها ظلت موجودة ومقروءة أكثر من مائة عام بعد وفاة إسحاق، ومنها أخذ أبو الفرج الأصبهاني غير قليل من مادة كتابه العظيم”كتاب الأغاني”..ولم يكن لأبي الفرج مصدر أغزر من كتاب إسحاق الموصلي، ومنها كتاب “اخبار عزة الميلاء” و” أغاني معبد” و ” أخبار حنين الحيري”و” أخبار طويس” و” أخبار سعيد بن مسجح ” و”أخبار محمد بن عائشة” و”قيان الحجاز” وكتب عن الغريض وابن سريج وطويس فضلًا عن كتاب الإيقاع وكتاب في الرقص وكتب اخري.
ويمكن اعتبار الموسيقار الفيلسوف الكندي- المتوفي سنة 874م- معاصرًا لإسحاق الموصلي ،وقد ساهم بقسط كبير من التأليف الموسيقي، فتحدث عن الأصوات وأبعادها وأجناس المقامات وأنواع الألحان- وأثبت أن الغناء العربي هو فن قائم بذاته ليس هو بفارسي ولا برومي بالرغم من أن العرب اقتبسوا بعض طرائق هؤلاء القوم في النغم كما أخذوا عنهم استعمال العود”..لكن العود في أيدي المغنيين العرب استعرب تمامًا وصار مختلفا عن عيدان الفرس والروم..ويقول الفيلسوف الكندي: ” لكل أمة في آلة العود طريقة ليست لغيرها من الأمم”..وهذا معناه أن لكل أمة مذهبًا في الغناء ليس لغيرها ولا يمكن أن تتخلي أمة عن مذهبها في الغناء لأنه مقيم بوجدانها، راسخ في شعورها.
وقد كان الكندي غزير التأليف، ولكن كتبه ضاعت كما ضاعت كتب الموصلي ولم يتبق منها إلا ثلاثة كتب، وبعض مخطوطات ما زالت في متاحف أوربا.
وكان المؤرخ الكبيرأبو الفرج المسعودي صاحب تاريخ “مروج الذهب” الشهير معاصرًا لأبي الفرج، وله ضمن كتابه التاريخي فصل طويل عن الغناء العربي وتاريخه.وهذا الفصل مازال ثابتًا في مكانه بين فصول الكتاب، ولكن كتاباته الأخري في الموسيقي والرقص والآلات الموسيقية لم تبق علي حالها، ولم تصل إلينا إلا شذرات..
ثم جاءت الفرقة الفلسفية المسماة (إخوان الصفا) ولها كتاب أودراسة في الموسيقي، أما ابن سينا الفيلسوف، فلم تكن الموسيقي علي إجادته لها إلا جزءا من مواهبه وأعماله ومؤلفاته..
وتحتل كتابات بعض المتصوفة عن الغناء والموسيقي منزلة عالمية، وبخاصة ما كتبه الامام الغزالي في كتابه “آداب السماع والوجد” ،وهو جزء من موسوعته الضخمة”إحياء علوم الدين”
وفي كتاب “آداب السماع والوجد” يقيم الإمام الغزالي الأدلة العقلية والنقلية علي إباحة الغناء والسماع في الديم، ويستشهد بالآية القرآنية:”إن أنكر الأصوات لصوت الحمير”، فيقول إن هذه الآية تحمل في ألفاظها ومعانيها استنكار الصوت القبيح واستحسان الصوت الجميل، فلا يصح في الذهن تحريم الصوت الجميل وما يصدر عنه من غناء..
وقد ذكر ابن النديم في “الفهرست” كتبًا عن الغناء والموسيقي، لا يعرف أحد عنها شيئا عنها الآن؛ فإن غزوات هولاكو وتيمور لنك والصليبيين في المشرق، وغزوات القشتاليين “الأسبان” في الأندلس والمغرب دمرت لاسسن المؤلفات العربية أو أحرقتها عمدًا.
ويقول المستشرق البريطاني ه.ج. فارمر في كتابه “تاريخ الموسيقي العربية” إنه لم يبق من الكتب التي ذكرها ابن النديم في الفهرست” إلا ما يساوي 6 في المية من مجموع هذه الكتب.
ولم تنج من الدمار حتي بعض كتب الموسيقار صفي الدين عبد المؤمن الأرموي، آخر الموسيقيين العظام في بغداد”توفي سنة 1294 م” ، مع أن السفاح هولاكو كان معجبًا بفنه، وقد أعفاه وأسرته وجيرانه من النهب والسبي علي أيدي عساكره المتوحشين الذين لم يتركوا أحدًا في عاصمة الخلافة إلا نهبوه أو جعلوه سبيًا لهم!.
وفي كتاب (تراث الغناء العربي بين الموصلي وزرياب..وأم كلثوم وعبد الوهاب) للأستاذ كمال النجمي يحاول فيه إضافة دراسة عصر الموسيقي العربية بداية من إسحاق الموصلي وزرياب وحتي عصر عبد الوهاب وأم كلثوم، ويلقي فيه الضوء علي جوانب من هذا التراث الغني في الغناء العربي- وبخاصة في مصر-
وكانت مادة الكتاب –علي حد قول المؤلف- متفرقة في كتابات منشورة في الصحف، فتم جمعها وتقسيمها في فصول يكمل بعضها البعضن ويربط بينها المعني العام لتراث الغناء العربي في مصر، متواصلًا بلا انقطاع من أول تاريخ فن الغناء العربي المتقن قبل ألف سنة إلي الآن.