عباس علي العلي يكتب | نفي العبثية وعبثية النفي

0

العبثية بمعناها المبسط عدم القدرة على التبرير المنطقي لحدوث فعل أو أمر أو وجود قضية لا باليقين ولا بالأحتمال ولا حتى بالشك، فكل موضوع ليس له غاية تبرره عبث محض كما أن أي موضوع يعتقد أنه صدر بلا سبب ولا عله فهو عبث أخر، هذا المفهوم العام التقليدي للمصطلح في دائرة المعرفة وإن كان له دلالات أخرى في الفلسفة أو الفقه أو حتى المنطق وفي الأدب، فلسفيا مثلا نجد أنها تدور في محور الفشل في البحث عن معنى للشخص الباحث عنه لكنها في نفس الوقت لا تدفعه للبحث الحقيقي بقدر ما توغل معه بأوهام فشله، ملخصها وجوهرها أن الإنسان يحاول عبثاً الوصول إلى الحقائق، وأن الكون عبارة عن مجرد أوهام وتخيلات لا توجد فيه نهايات مطلقة أو أبدية مبررة أو لها تعليل بأصل الوجود، لذلك باعتقاد العبثيون إن البشر يحاولون تاريخياً إيجاد معنى لحياتهم، وغالباً ما تودي نتائج هذا البحث تقليدياً إلى إحدى نتيجتين “إما أن الحياة لا معنى لها” أو “أن الحياة تحوي في داخلها على غرض منصوص من قبل سلطة أعلى”.
إذا العبث في الفلسفة كما يظهر من التعريف مرتبط بموضوعين أساسيين، الأول غياب المعنى الدال على العلة أو السبب، ثانيا غياب الرابط بين المعنى والنتيجة، أو أن النتيجة مهما كانت لا تبرر المعنى ولا تنتمي له، لذلك ينحى أتجاه العبثيون نحو عبور القضيتين أو تجاهلهما إلى عالم بلا عنوان، ولا معنى له وبالتالي بلا نتيجة واضحة كي يتوافق وجودهم مع مبررات فكرتهم، فهم يصنعون واقعا مشوشا فوضويا ليعيشوا فيه بقوانين الفوضى وأساليب اللا منطق واللا معنى واللا هدف، لأنهم قبل ذلك يعدون أن الوجود مهما يبدو متسقا ومنضبطا وله ضرورة وربما هدف ومعنى، لكنه في الحقيقة أن من يجعل ذلك للوجود يبدو هكذا هو نحن، هي توهماتنا الغير متيقن منها توحي لنا ذلك، ولربما ينهار كل شيء في لحظة وجودية لتعلن فعلية عديمة الوجود.
من نتائج الإيمان بالمقولة العبثية أن الإنسان لا يفقد فقط معنى الوجود ولا أنتظار نتائج من الوجود مرورا بنكرانه كل الروابط والعلاقات بين المعنى والنتيجة، فيسقط كل ذلك من دائرة التزاماته كجزء من وجود عليه وله حق وواجب، إنه يتحلل من كل أرتباط بالوجود ويتبنى الفوضى سلوكيا ومعرفيا، وعليه أن يجعل من العالم الذي يعيش فيه مجرد فرصة تائهة في وجود مشوش بلا ألتزام ولا ضبط، أي أن لا جوده ولا مضمون وجوده حقيقيا ولا حتى تصرفات الإنسان وأفعاله سواء كانت في الخير أو الشر الإنساني لها معنى، سوى أن يمضي كل شيء للوجهة التي تنتهي في أي مكان وبأي زمان، إنه اليأس الكامل من إصلاح الوجود مثلا أو ربما العجز في أن نشارك في هذا الإصلاح ولو بتبني هدف ما يسعى له الإنسان جادا ليكون له معنى ولو خاص، لا يخفى أن العبثية كفلسفة لم تكن وليدة تأمل سطحي ولا هي نظرية ولدت من فراغ وستنتهي عندما نجد من يشتت مبرراتها، إنها نتاج واقع حقيقي منظورا له من ناحية أكثر تطرفا من السلبية، أنها تصوير الحياة المعاصرة وما فيها من تشتت وفقدان للرؤية الواضحة يُحوِّل الحياةَ إلى وجودٍ لا طعم فيه ولا معنى عند من فقد الأمل في إصلاح الإنسان بالحقيقة وليس إصلاح الوجود.
أنتقلت العبثية بمضامينها الفكرية والفلسفية للأدب وخاصة اليساري الأوربي تحديدا، والذي واجهة أزمة الإنسان المعاصر بشكل خاص مع عالمه المادي الطاغي في أنانيته، وعبر به عن عجز هذا الكائن في المواجهة بالرغم من أن واجبه الدائم أن يتصدى لكل خطر يداهم وجوده، لكن عالم الألة والحروب والنظام الأقتصادي الذي سحق بقوانينه جوهر الإنسان صاحب الحق الأسمى في الوجود، لم يترك له خيار البحث عن المعنى ومن ثم البحث عن النتيجة التي يتبناها المعنى، الأديب العبثي إذا حول رؤيته المتشائمة المنهزمة في الواقع إلى سوط لجلد الذات الإنسانية وبكل قسوة ولكن وأيضا بلغة جميلة، لقد أختصر ميلان كونديرا في روايته حفلة التفاهة فكرته (اللا معنى يا صديقي هو جوهر الوجود، وهو معنا دائمًا في كل مكان، إنه موجود حتى حيث لا أحد يريد أن يراه، في الأهوال وفي الصراعات الدموية وفي أخطر المآسي، ولكن ليس المقصود هو التعرف إلى اللا معنى بل التعلق به وتعلّم كيفية الوقوع في حبه، صديقي، تنفس هذه التفاهة التي تحيط بنا، إنها مفتاح الحكمة، مفتاح المزاج الجيد والرضا).
هل يمكننا القول أن فلسفة العبثية أو حتى التفكير العبثي من غير تنظير ما هو بالنتيجة إلا موقف من الحياة؟ نعم بالتأكيد هو موقف وإنعكاس لموقف ونتيجة أزمة موقف، العبثية كل هذا وأكثر عندما لا يجد الإنسان لوجوده الخاص من معنى، وجوده الخاص وليس وجود الوجود الكلي لأنه لا يمكن أن يكون ناطقا عن كل الموجودات ولا من حقه أن يكون كذلك، إنها أزمة العقل الإنساني أولا عندا يتخلى سريعا عن ملاحظة الخطأ أو يخشى التعرض له، لذا فهو ينزوي باحثا في المناطق الأكثر أمنا والتي لا تشكل خطرا عليه، ليحيا وحيدا منعزلا وقد أراح حاله من مهمة ليس بالضرورة أن تكون من مسئوليته الحصرية، العبثي حصر نفسه في ثلاثة خيارات تفسر أزمة العقل لديه وتركيبة هذه الأزمة، فهو يحاول الهرب من نفسه للهرب من الواقع كمرحلة أولى، ولأن الواقع بنظره بلا معنى فهروبه سهل جدا عندما يكون متجها نحو خلاصات هادئة تريحه من تعب الهروب المزمن، باحثا في الإيمان بالمعتقدات الدينية والروحية الغارقة في مثاليتها وربما طوباويتها التي تؤمن بعالم متعالٍ، وأخيرا الأنتماء لعالم مشبع باليوتوبيا وهناك الملاذ الصحي من توترات التناقض والإحساس بالتغريب والضياع والعيش في حالة من الخمول والركود والوهم الديني.
إذا نحن أمام إشكالية إنسانية تمس شريحة واسعة من الناس من الذين أتخذوا موقفا ما من وجودهم وعاشوا بين مجتمع تتقاذفه الأفكار والكثير من الرؤى والنظريات وربما الحلول، لكن ما شأن هذا الموقف عندما يحاول البعض أن يعالج نتائج وربما حتى أسباب وعلل الموقف؟ هل ينجح البعض من مواجهة الحقيقة؟ هل العبثي غير قادر فعلا أن يصل بإدراكاته وأستخدام أليات التعقل التي أوصلته إلى هذا الموقف الوجودي سواء أكان فلسفيا أو حتى أدبيا، فمن يملك القدرة على أتخاذ قرار وبناء موقف شخصي من قضية ما قادر أيضا أن يرى أكثر لو جد في البحث عن سؤال المعنى بالعمق، هناك من حاول وأسس لمثل هذا التوجه وهذه الفكرة وأبرزهم على الإطلاق البر كامو الذي قد خلص إلى فلسفته مميزة وربما أسس لمنهج مواجهة ما يعرف لاحقا بنفي العبثية ذاتها، عن طريق التمرد علیها ومجابهتها، وفي ذلك فقط تكمن أصالة تفكیره الذي عبر عم محاولة حقيقية لفعل اللازم المنطقي، إذ إنه الوحيد من الفلاسفة الذي خرج بنتيجة عقلانية عن العبث والعبثية من دون أن یترك الفكرة أزمة موقف مجردة من كل حل.

في الوقت الذي لا ننفي فيه مبررات الفكرة العبثية ولا حقيقة موقفها تجاه الكثير من قضايا الإنسان في واقع يبدو للكثيرين يحمل النقائض ونقائض النقائض دون أن يشعر بالحرج، نركز هنا على دور الإنسان في أختياراته القائمة على التعمق في البحث عن جوهر الإشكالية وعدم ترك السؤال عن المعنى، وليس السعي في البحث في الحلول للظواهر الفكرية والنفسية الوجودية، والأولى منطقيا الأهتمام بعلات وعوامل أختلال القيم والقواعد والروابط المنحرفة التي صنعت هذا الواقع المزيف، الواقع الذي يخفي ورائه الكثير من الظلم والإقصاء وقمع الحريات ومصادر حق المصير الحر، فلم يكن هذا الواقع هو نتيجة مباشرة لوجودنا الراهن بقدر ما هو أختلال تاريخي مزمن قائم على مبدأ القوي والضعيف، السيد والعبد الذي لا مكان فيه لمبدأ أن الناس أفراد متساوون في كل شيء، ومعيار التفضيل هو المقدار الفعلي من الخير والشر الذي ينتجه الإنسان داخل دائرة الوجود المغلقة.
وقد يثار موضوع أخر متعلق بالقيمة الأخلاقية للموقف العبثي الذي ينادي في النهاية بالعزلة والأضمحلال والركون إلى زوايا النسيان أو زوايا اللا موقف من أي شيء، الحقيقية القضية الأخلاقية حتى تكون حكما صالحا لقياس إنسانية الموقف وأحقيته من عدمها، على الداعين لهذا الموقف مراجعة كل الواقع بتفاصيله، وهل يملك هذا الواقع قيما أخلاقية قادرة للدفاع عن الإنسان أن لا يكون ظالما وأن لا يكون مظلوما، إذا أستطعنا أن نحدد الموقف من أخلاقيات المجتمع يمكننا إثارة السؤال مرة أخرى، وسنرى أن غياب الأخلاقيات وقيم الفضيلة والحق والخير هي بداية كل عبث وجودي، لأن قيم الخير الأخلاقية وحدها من تعطي المعنى الجميل للوجود، وعندها لا يصبح عبء البحث عن المعنى مشكلة ولا حتى قضية تثير الكثير من النقاش والنظر وربما الأختلاف، ولا يمكنها أن تبرر الفشل في البحث عن المعنى كإشكالية، أن الوجود الأخلاقي الحقيقي هو وجود متكامل ومبني على حقائق وأفكار واقعية لا غربة فيها ولا غرابة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.