عيبان محمد السامعي يكتب | سوسيولوجيا كرة القدم (1-3)

0

وأخيراً انطلقت صافرة مونديال كأس العالم لكرة القدم
يكتسبُ المونديال الكروي, والذي يتكرر مرةً واحدة كلّ أربع سنوات, أهميته من كونه يمثل تظاهرة عالمية كبرى, تستقطبُ اهتمام مئات الملايين من عشّاق الكرة المستديرة في أرجاء الكوكب.
سنحاول ــ فيما يلي ــ تسليط الضوءَ على رياضة كرة القدم من منظور مغاير, وذلك بكشف الأبعاد السوسيولوجية (الاجتماعية) لها, والاجابة على بعض التساؤلات, ومنها:
كيف نشأت كرة القدم؟ وما طبيعة العمليات (Processes) والظواهر (Phenomenon s ) والعلاقات (Relationships) التي تنتجها؟ وما علاقتها بالسياسة والاقتصاد؟ ولماذا تتباين المواقف حيالها: بين من يصفها بـ”مملكة الوفاء البشري” ووسيلة للتقارب بين الشعوب, ومن يعتبرها أداة لإلهاء الشعوب وصرفها عن قضاياها الأساسية؟ وما هي التغيرات التي طرأت على كرة القدم وحوّلتها من لعبة رياضية غايتها التسلية والترفيه إلى سلعة تجارية؟؟
لقد نشأت الحاجة إلى الترفيه والتسلية لدى الإنسان الأول. وتفيد الأنثروبولوجيا (Anthropology) بأن إنسان الحقبة البدائية ومنذ أن تمكّن من تأمين حاجاته الأساسية المتمثلة في: المأكل, والمشرب, والملبس, والمأوى, بدأ يمتلك وقت فراغ, ومن ثمَّ شرع يفكر في كيفية شغله. وفي هذا المجرى ابتكر وسائل مختلفة من الترفيه والتسلية كـ: الألعاب, والرقص, والرسم, ورواية الحكايات, وغيرها.
وأدت الألعاب الرياضية دوراً مهماً في ذلك, حيث عززت العلاقات الاجتماعية, وعملت على ترقية وجدان الإنسان, وتهذيب سلوكه, وانفتاحه بشكل أكبر على محيطه الاجتماعي, وبالتالي أفضت إلى تطور حاسم في تفكيره.
يعود تاريخ نشأة كرة القدم إلى ما يزيد عن 3500 عام. فقد “مارسها الصينيون القدامى، وكانوا يقدمون الولائم للفريق الفائز, ويجلدون الفريق المنهزم”, كما عرفها اليونانيون واليابانيون والمصريون في فترة ما قبل الميلاد.
على أن شكلها المُمارس ــ كما هو اليوم ــ قد ظهر في انجلترا في مستهل القرن الحادي عشر الميلادي, وظلّت تُمارس في نطاق محدود, بسبب منع السلطة الملكية من ممارستها, قبل أن تنتشر ويُعترف بها لاحقاً مطلع القرن الثامن عشر الميلادي, وبذلك بدأت كرة القدم تتخذ طابعاً تنظيمياً, فنشأت قوانين اللعبة وتحددت أدوار لاعبيها.
ومع نهاية القرن التاسع عشر الميلادي, أصبحت كرة القدم لعبة عالمية, فقد انتشرت وتعممت عبر ركاب الاستعمار الانجليزي في مناطق مختلفة من العالم، وأدى ذلك إلى إنشاء الاتحاد الدولي لكرة القدم, والذي يُعرف اختصاراً بالفيفا (FIFA) عام 1901م.
تعد كرة القدم أكثر أنواع الألعاب الرياضية العالمية شعبيةً وحضوراً, إذ يتجاوز جمهورها المليار إنسان حول العالم. لا تعرف حدوداً جغرافية أو هويات دينية أو عرقية أو قومية, بل هي أشبه بلغة عالمية توحّد البشر.
ولكرة القدم جاذبية سحرية تأسر ألباب مُتشَّيّعيها, وتتمّلّكُ وجدانَاتهم, فيتعلّقونُ بها حدَّ الإدمان, إنّها “الديانة العصرية” كما يصفها إدواردو غاليانو
يمثل مشجعو كرة القدم ظاهرة اجتماعية (Social Phenomenon) من نمط خاص, فهم يؤلفون طيفاً واسعاً ومتنوّعاً من الأفراد, تنشأ بينهم علاقات تفاعلية مباشرة وغير مباشرة, ويتكّوّن لديهم شعور بوجود روابط مشتركة, وهويّة جمعيّة محورها الانتماء إلى عالم كرة القدم, وما يتضمنه من: رموز, وقواعد, ولغة, وإشارات, وعواطف.
ويشمل أفراد من مختلف الأعمار, وإنْ كانت الغلبة للشباب, ومن خلفيات اجتماعية ومستويات اقتصادية وثقافية متباينة, فهو يضم: ابن الطبقة الوسطى, والغني, والفقير, والمثقف, والشاب الجامعي, ومتوسط التعليم.
ويعد مشجعو كرة القدم عنصراً أساسياً في اللعبة, بخلاف بعض الألعاب الرياضية الأخرى التي لا تتطلب وجود مشجعين ــ كلعبة الشطرنج مثلاً ــ فمشجعو كرة القدم يمنحونها الحيوية والديناميكية والاستمرارية, ويضفون عليها الطابع الجماهيري.
إن جمهور مشجعي كرة القدم يقوم على التلقائية, فهو لا يخضع للتنظيم الهيراركي أو التراتب الهرمي, غير أنّ هذا لا يعني أنه عشوائي, بل يقوم على قواعد معينة “غير مكتوبة”. ويتصف باللامركزية, فلا وجود لسلطة أو قائد أو زعيم يتحكّم به, فالجميع على مكانة واحدة, حيث تتراجع حقيقة المراتب الاجتماعية والاقتصادية للأفراد لصالح الاندماج, وإن كان هذا التراجع يحدث مؤقتاً/ ظرفياً أثناء ممارسة عملية التشجيع, وما إن تنتهي العملية حتى تعود تلك المراتب إلى الواقع الاجتماعي.
ورياضة كرة القدم هي نشاط اجتماعي حداثي (Modern), ولهذا يرتبط بها أبناء المدن أكثر من أبناء الريف.
إن عملية تشجيع كرة القدم مظهر من مظاهر الانخراط في حركة العصر ومسايرة الجديد. وأصبح الفوز بالألعاب الرياضية على اختلاف أنواعها وإحراز مراكز متقدمة فيها يضفي على البلد ــ حتى وإن كان بلداً نامياً ضعيفاً ــ سمعة عالمية جيدة, مثل: البرازيل, والأرجنتين, والأورغواي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.