علي فضيل العربي يكتب | تثقيف السياسة

0

كثيرا ما نسمع أحاديث تتناول العلاقة القائمة بين الثقافة و السياسة ، أو بين المثقف و السياسي . فمن المتحدّثين من يقدّم رجل السياسة على المثقف ، و منهم من يقدّم المثقف على السياسيّ بحكم المنصب الذي يشغله .
و من خلال تلك الأحاديث الأكاديميّة و العامة ، نستخلص التباين الحاصل و السائد ، حول أحقيّة أحدهما في الريادة ، و قيادة المجتمع .
لا أقصد بالثقافة السياسية ، تلك الشعارات الدعائية ، و المؤتمرات السياسية ، التي تُعقد هنا و هناك ، بمناسبة معيّنة أو بغير مناسبة . إنّما أقصد إعادة بناء ثقافة سياسيّة تليق بالحياة البشريّة ، و تحظ حقوق الإنسان الفطريّة ؛ من حياة هادئة و حريّة مسؤولة و عيش كريم و أمن و سلام .
هناك نمط من الخطاب السياسي سائد في العالم المعاصر ، و هو سليل فلسفة القرون العشرة الماضيّة ، القائمة على الطبقيّة الاجتماعية و التمييز العرقي ، و الصراع الديني ، و تقسيم العالم إلى كيانات إيديولوجيّة متصارعة .
و هو نمط سياسيّ قائم ، أساسا ، على النظرية البراغماتية ، النفعيّة ، تتجاذبه موازين القوة و الضعف ، تقوده معايير المصالح الاقتصادية ، و تتخلّله مواقف التأييد المطلق أو المعارضة بين المجتمعات المتباينة الأعراق و الملل و الهويّات . أو بين فئات متصارعة داخل المجتمع الواحد ، سواء في دول الغرب أو في دول الشرق .
لا بد من إعادة صياغة الخطاب السياسي من جذوره ، و أخلقة الدساتير و المواقف السياسيّة و العلاقات الدبلوماسية و الثقافيّة .
و ذلك بخلق ثقافة سياسيّة وسطيّة ، تعيد للإنسان روحه الإنسانيّة المفعمة بالأجواء الروحانيّة ، التي تقدّس المباديء الساميّة . فقد طغت ، على الإنسان المعاصر ، الفلسفة الماديّة إلى الحدّ الذي جعله يفقد توازنه النفسي و العقلي . و يسعى ، بكل قواه الذهنيّة و العضليّة ، إلى تحقيق الحاجات الماديّة على حساب المتطلّبات الروحانيّة .
إنّ الحروب التي أضرمها الأسلاف في القرون المنصرمة ، و نظيرتها التي أوقدها الأخلاف في هذا العصر النووي ، لم تجن منها البشريّة ، و لن تجني منها ، سوى المآسي و الخراب و الدمار . و للأسف ، فما انفكّ الإنسان يعيد الأخطاء الفادحة نفسها ، ليحصد النتائج الوخيمة ذاتها ، و رغم ذلك لم يتعلّم منها شيئا ، و لم يتعظ من مخرجاتها .
إنّ تثقيف السياسة المعاصرة ، ثقافة سلميّة ، منزوعة العنف اللفظي و المعنوي و الكراهيّة على أساس الهويّة ، تحتاج إلى أن يقود الرجل المثقف ذو الثقافة الرحيمة ، الخاليّة من التطرّف الديني و الفلسفي الرجل السياسيّ المتشبّع بقيّم التسامح و التعايش السلمي ، و أن يكون هذا الأخير على أهبة الاستعداد – دائما – لبناء مجتمع إنسانيّ خال من الأفكار المتطرّفة و السلوكات المنحازة إلى جماعة بشريّة على حساب أخرى جماعات أخرى ، و أن يكون بعيدا عن السادية و الأنانيّة و حب الزعامة و التسلّط ، و أن تسود الفكرة الخيّرة ، المستدامة ، على النزوة السلبيّة ، العابرة ، و تسمو المباديء الأخلاقيّة على الأطماع .
عقول سياسيّينا في حاجة ماسة إلى تثقيف جديد و متجدّد ، و إلى تنقيتها من الأفكار التي تفضي إلى التسلّط و البغضاء .
إنّ إعادة تثقيف السياسة المعاصرة ، سيجنب البشريّة ، ما حدث من إبادة للهنود الحمر في القارة الأمريكية – في شمالها و جنوبها – على ( الكاوبوي ) الأمريكي القادم من أروربا . سيبعد البشريّة عمّا حدث لساكنة هيروشيما و ناكازاكي ، و عمّا ارتكبته النازيّة و الفاشيّة من جرائم فظيعة ، و ما اقترفته أيادي المحتلين الأوربيين في إفريقيا و أسيا و أستراليا .
إنّ المتتبّع – بتمعنّ – لأغلب الخطابات السياسيّة على المنابر الأمميّة و المنصّات الجهوية و القوميّة ، يكتشف مدى عمق الإشكاليّة المتأزمة ، الناتجة عن معاناة مرتادي الفعل السياسي من القصور الثقافي ، و التشوّه النفسي ، و المراهقة العقليّة .
لقد قيل : إن الناس على دين ملوكهم . و قيل ايضا : كما تكونوا يُولّى عليكم . و هذا يعني وجود علاقة جدليّة بين رجل السياسة و رجل الشارع . فالمجتمع الذي يقوده حاكمه الجاهل بالجزرة و العصا ، لن يبرح موضع التخلّف ، و لن يقوى على النماء و الارتقاء قيد شبر .
و لهذا السبب ، و غيره ، ظهرت فكرة الديمقراطيّة التشاركيّة لوضع حدّ للديكتاتوريّة الفردانيّة ، و للمساهمة في إعادة بناء التضامن الاجتماعي بشكل موضوعيّ حاسم . . جاء على لسان الباحث السوسيولوجي البريطاني أنطوني جيدنر قوله : ” ليست –الديمقراطية التشاركية – امتدادا للديمقراطية التمثيلية أو الديمقراطية الليبرالية ولا حتى مكملة لها ولكنها من خلال التطبيق تخلق صيغا للتبادل الاجتماعي.. ”
و هي ديمقراطية تختلف عن الديمقراطية التمثيلية المعتادة ، و التي عرّفها الباحث البريطاني أنطوني جيدنر بقوله : ” صيغة لنظام حكم يتسم بانتخابات منتظمة وبالاقتراع العام وبحرية الفكر والحق العام في الترشّح للمناصب العامة وتشكيل روابط سياسية ” ”.
و قد جُعل الانتخاب أحد اهم أدواتها الشعبيّة . لكنّ انتشار الجهل و الأميّة بين العامة ، أفرغ آلية الانتخاب من مضمونها ، و أجهض ثمارها المرجوة .
إنّ العمليّة الانتخابيّة – لكي تنجح و تفيد – في حاجة إلى تثقيف سياسي راشد . لأنّها تعتمد على سلوك الاختيار الإدراك الحر و الواعي ، لا على وضع ورقة في الصندوق فقط . لا بد للناخب – كي يكون سلوكه الانتخابي سليم الشكل و المحتوى – أن يتمتّع بقسط من التعليم و الثقافة و الفهم و الاختيار و التمييز ما بين الأفكار الصالحة و الطالحة ، ، كي تحقّق الفلسفة الانتخابيّة غايتها ، و يُسهم في ترسيخ الديمقراطيّة التشاركيّة الصحيحة .
و بعد …
ليت شعوب كوكبنا الأرضي تتعايش في سلام و وئام و تعاون و رحمة ، بعيدة عن الحروب اللفظيّة و الماديّة ، و يعود إلى كوكبنا جماله و سحره و طهارته .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.