هيبت بافي حلبجة يكتب | نقض مفهوم الكون لدى هولباخ (٢-٣)

0

المقدمة الثالثة : في مؤلفه ، نسق الطبيعة ، يمايز هولباخ مابين واقع الكون ومابين مفهوم الوجود ، ولإنه يلغي وجود الإله والوجود اللامادي ، فإنه لايكترث مطلقاٌ بمفهوم الوجود ، الوجود الإنطولوجي ، الوجود الكلي ، فهذا أمر بالنسبة له لاقيمة موضوعية له ، ولاقيمة علمية له ، فالقيمة الموضوعية تكمن في مادية الواقع ، في مادية الكون ، في الطبيعة من حيث هي هي . وهكذا :
من ناحية ، إن الكون ممتلىء بالمادة ، فحيث الكون تكون المادة وحيث المادة يكون الكون ، فلا فصل ولا إنفصام ولاتجزئة مابين الأثنين .
ومن ناحية ، ينتقد هولباخ الوجود الإلهي مرة أخرى من خلال تصوره المزدوج : فإذ كيف يمكن أن يتحقق زعم الكهنة ، إن الإله كلي الوجود وموجود في كل مكان ويملىء كل الوجود وها نحن موجودون خارجه ، وها نحن نشغل حيزاٌ من خارج وجوده . وإذ كيف يمكن أن يستقيم وجودنا ووجود الكون الممتلىء ، ووجود هذا الإله خارج هذا الكون ، وإذا كان الإله موجوداٌ داخل هذا الكون فلماذا نشك في وجوده ، لماذا لانحس بوجوده ، وكيف يمكن أن تتناسب طبيعته اللامادية مع طبيعة هذا الكون المادية .
المقدمة الرابعة : لكي تكتمل دائرة منظومته الفكرية ، من الأساس والجوهر أن نعرج إلى تلك الحتمية الصارمة التي إستند إليها هولباخ في تصوره عن سلوكنا وتصرفاتنا معتقداٌ إن الإختيارات التي نعتقد إننا يمكن أن نتصرف في حدودها ليست في الحقيقة إلا تصوراٌ غير دقيقاٌ لإننا محكومون مابين الرغبة ومابين اللذة ، فإرادتنا ، في حقيقتها ليست إلا تعبيراٌ يجسد هذا الأمر . وهكذا :
فإن هولباخ ، بعد أن يتأكد من عدم وجود الإله المزعوم ، ومن عدم وجود أي ماهو لامادي ، ويفيض في ذلك ، يحدد منطومته الفكرية بأمرين إثنين :
الأمر الأول ، إن جوهر الكون هو الإمتلاء بالمادة ، وماقوانين الفيزياء إلا تعبيراٌ صادقاٌ لهذا الواقع كما هو ، لذلك حينما ينتقد نيوتون فيقول عنه ، إنه عبقري خارق في المحتوى الفيزيائي وطفل أحمق حينما يتحدث عن الفلسفة والإله والغيبيات .
الأمر الثاني ، ذاك على الصعيد الكوني ، وأما على الصعيد الإنساني ، فإننا لايمكن أن نتصرف خارج حدود تلك العلاقة الأصيلة والأصلية مابين مادية هذا الكون وفيزيولوجية جسمنا وطبيعة تلك الأنظمة التي تقود سلوكنا وتصرفاتنا .
نكتفي بهذا القدر ، ونسمح لنفسنا أن نعترض بالتالي :
أولاٌ : إن الإشكالية الفعلية في منظومة هولباخ الفكرية تكمن في تصوره إن ماهية الأشياء ، إن طبيعة الأشياء ، هي إما مادية أو لامادية ، هي إما مثل إطروحات الأديان والكهنة كالروح والإله ، أو مثل الواقع كالشجرة والصخرة وذاك الحيوان وهذا الإنسان ، ولذلك حينما ألغى الوجود اللامادي إقترب سلوك الإنسان من تلك الحتمية الصارمة ، وأصبح مايعتمل في صدره مجرد أشجان فيزيولوجية ، وغدا ينظر إلى الحركة كما تصورها إسحاق نيوتون حسب تلك القوانين الفيزيائية الثلاثة ، تلك الحركة التي إنتقدناها في حلقة سابقة والتي هي قاصرة في تحديد المعنى الفعلي لما يدور في الكون ، والتي تنم عن التصور البشري السخيف عن الأشياء والحركة . وهكذا :
إن فيزيائية نيوتون كما مفهوم الحركة لدى هولباخ ليست في الحقيقة إلا تعابير بشرية مابين البشر وتتناسب مع دماغنا وحواسنا ، في حين إن الأصل إن الحركة ليست خارجية ولا حتى داخلية إنما هي وطبيعة تلك الجسيمات المجهرية المتناهية في الصغر قضية واحدة ، أمر واحد . فإذا كانت طبيعة تلك الجسيمات موجية ، أو مجالية ، أو أي شيء آخر ، فإن الحركة هي تلك الطبيعة تحديداٌ .
ثانياٌ : لاشك إن هولباخ قد أصاب في إطروحاته حول نفي وجود إله للكون ، حول نفي كل ماهو غيبي ، حول نفي كل ماهو روحي لامادي ، لكنه تعثر في فهمه لمحتوى الكون ، لماهية الكون وطبيعته ، إذ تصور إنه عل شكل ثابت ، على شكل جسم ممتلىء بالمادة ، بل على صورة وعاء يحتضن المادة في كل حيز من حيزها ، في حين إن هذا التصور يغالط محتوى فهمنا للفيزياء الحديثة ، يغالط مفهوم الفضاء ، سيما الفضاء المتحرك الذي يتوسع وربما ينقبض . وهكذا :
من زاوية ، إن الفيزياء الحديثة تسعى جاهدة في إدراك طبيعة وماهية هذا الكون من خلال فهمنا لحقيقة تلك الجسيمات المجهرية المتناهية في الصغر ، مثل البوزون والكوارك ، والتي ربما تتمتع بطبيعة خاصة ، طبيعة موجية ، طبيعة مجالية .
ومن زاوية ، إن فيزياء الكوانتوم تسعى لفهم طبيعة وتصرف الفوتون والإلكترون ، سيما حينما تخضع للمراقبة ، فهي تتصرف كما لو كانت واعية ومدركة لتلك المراقبة ، فإذا تمت مراقبتها تتصرف كما إنها جسيم ، وإذا لم ، فإنها تتصرف كموجة . ونود أن نشير هنا إن إدراكها لاتنم عن طبيعة روحانية لا مادية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.