إيمان حنا تكتب | قُتِلَتْ والفاعلُ معلومُ!

0

دَمعةُ ساخنةُ تَحملُ كلَ معانى القهر الإنسانى وجدتْ مجراهَا على وجنتى طفلةِ فى الشمال السورى لم تتجاوز السبعة ربيعًا، وشفاهٍ منهكة القوى بالكاد تُخرجُ كلمات معدودات، بهذا المشهد لخصتْ إحدى طفلات سورية ما تشعر به بعد وفاة شقيقتها مُتأثرًة بالبرد القارسِ الذى لم تفلحْ الأكياسُ البلاستيكيةُ التى تُغطى المخيم فى صد طلَقاته القاتلة عن جسدِ نحيلِ يرتعشُ دون غطاء كافٍ.
سُؤال قاسٍ، ذلك الذى وجهته الطفلةُ السوريةُ: “ماتت أُختي من البردِ.. ما بعرف كيف؟.. كل العالم دفيانين إلا نحن ما دفيانين..ما بعرف ليه؟..الجو برد كتير”!.
اعتَادتْ تلك العائلة ـ البسيطة شكلًا الغنية فى جوهرها ـ الاعتمادَ على قشر الزيتون فى التدفئة؛ لكن إذا نفدت كميته يُتركون فريسة للبرد؛ فإشعال النيران هو وسيلتهم الوحيدة لاختلاس لحظات دفء تسرى فى أطرافهم المتجمدة بجسد فقد القدرة على التشبث بالحياة.
الطفلةُ السوريةُ وجهَتْ بعفويتها السؤال الأصعب على الإطلاق، والذى رُبما يَعجزُ أباطرة العالم وحكامه عن تقديم إجابة شافية له، حيث يَحملُ فى طياتِه تفاصيل قصة عالمنا المخزية، بل إنه يحمل جُملة اتهامات باسم الطفولة المُنتهكة للعالم الذى أضحى يفرضُ عليهم أثمانًا باهظة لمخططات وأطماعِ لا ناقة لهم فيها ولا جَمل، فلا هم من زُمرة المتربحين، ولا تُركوا ليعيشوا بسلام، حتى أصبَحتْ الحياةُ الطبيعية فى أبسط صورها حُلمًا بعيد المنالِ بالنسبة لهم.
السببُ الحَقيقى وراء موتِ تلك الطفلة السوريةِ لَمْ يَكنْ قلة الحطبِ أو قشر الزيتون اللازم لإشعال النار؛ ولَكن السببَ أباطرة الحروب ومعسكراتها التى أضحت منتشرة فى بقاع الأرض، لذلك فالطفلةُ قُتلت مع سبق الإصرارِ والترصدِ، والفاعل معلومُ لَنا جميعًا.
لقد طَالتْ نِيران الحُروبِ والصراعات ما يقارب الـ 23 دولة(وفق إحصائيات البنك الدولى)، فإذا لم تكن أرضًا للمعركة فحتمًا تطالك غبارها السام.
يُعد النزوحُ وأبناء المخيمات مِن أكبر الكوارث الإنسانية المترتبة على الحروبِ والصراعات، تُخبرنا إحصائيات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين بحجمِ هذه المأساة، حَيْثُ أخذَ عدد اللاجئين فى الارتفاع خلال العقد الماضى إلى أن بلغ ذروته خلال العامين الماضيين، فقد بلغَ 27.1 مليون شخص عام 2021، بينما بلغ عدد النازحين داخل بلادهم 53.2 مليون شخص (وفق تقرير الاتجاهات العالمية السنوي الصادر عن المفوضية)، كل هذا فى ظل أزمات نقص الغذء والتغير المناخى وارتفاع أسعار الطاقة.
ولا شَك أنَّ الحربَ الروسيةَ الأوكرانية زادتْ من حجم المعاناة، حَيْثُ نتجَ عنها أسرع وأكبر أزمة نزوح قسرى منذ الحرب العالمية الثانية، ما أدى إلى زيادة عدد اللاجئين لأكثر من100 مليون شخص تقريبًا.
إنَّ الحياة فى المخيمات لا تُشبه الحياة، ومَشقَتها يَصُعب نَقلها فى بِضعة سطور، علَّ جولاتى السابقة فى بَعض مخيمات اللَاجئين بمناطق مختلفة، جعلتنى أُكون صُورة واضحة عن معاناة قاطنيها، الذين لا تَختلف سمات حياتَهم كثيرًا باختلاف مواقعهم الجغرافية، فأحلامهم تَتلخص قى العيش بسلام والنوم بدون أصوات المدافع وآلات الحرب، الدفء لأبدانهم المرتجفة، أو حتى مجرد توفر مرحاض يستر حياء طفلة عن أَعين المارة.
رُبما تِلك المَشاهد العَالقة بذهنى وتَأبى المحو من الذاكرة تُهدىء من سخطى بسبب الارتفاع الكبير فى أسعار السلع التى باتت كابوسًا للأسر كافة.
نَعمْ، إننى أشعرُ بالسَخط مثلكم على كثير من الأمور، فمُنذ بداية الحرب الأوكرانية الروسية وبعدها التعويم، أترقب يوميًا تحرك الأسعار، وأسأل بشغفِ جوهره القَلق عن السلع الأساسية ( الأرز والزيت واللحوم، إلخ)، وأخشى فاتورة الكهرباء وتَعريفة المواصلات، كُنت مثلكم أتهم الحكومة ببعدها عن الواقع المرير الذى يعيشه المواطن البسيط، عقب كل موجة غلاء، ولا أُقدر أهمية إنجاز اسمه”الأمن والأمان” فى حياة الشعوب، بل أعتبره أمرًا طبيعيًا وليس امتيازًا لمصر، حتى خضت تجارب معيشة القاطنين فى المخيمات، ممن كانوا يتمتعوا بدفء المنازل مثلنا، وكانت لهم حياة تحفظ ماء وجوههم، ثم سُلبت تلك الحقوق منهم.
حِينما شَاهدْت مقطع الفيديو لهذه الطفلة واستمعت إلى كلماتها الحزينة، أتتْ على ذاكرتى عبَارة الطفلة سيهام ـ إحدى الطِفلات اليَمنيات اللاجِئات اللاتى التقيتهن فى مخيم “الميل” على حدود صنعاء ـ مأرب باليمن، أثناء طغيتى للأوضاع الإنسانية هناك، حينما سألتها عن الرسالة التى ترغب فى توجيهها للعالم، فأجابتْ: “أقولُ لهم ارحموا لو عندكم قلب”، ها هى الأنفاسُ المُتقطعة ذاتها والعيون الزائغة واحدة لا اختلاف بين الطفلتين السورية واليمنية، إلا الجنسية المدونة بجوازات سفر أو بطاقات الهوية التى فُقدت بالأساس أثناء رحلة النزوح.
وأنا أيضًا أضُم صَوتِى لأصوات هؤلاء الأطفالِ الَّذِين يتساءَلون: أى ذنبِ ارتكبنا ولماذا نُحرم من أبسط حقوقِنا فى الحياة؟ هل تَصلُ إلى مَسامِعكم صرخات الأطفال الرُضع على صدور أمهاتهم، وقد جَفتْ ولَمْ تَعد تَحمل بداخلها ما يسد رَمق جوعهم؟ هل يمكنكم يومًا الإحساس برجفات الأجسادِ داخل خيم تكسوها طبقات الجليد على الحدود فى تركيا وسوريا ولبنان والعراق وغيرها؟ هل سنعود يومًا إلى منازلنا ونضم ألعابنا التى تَركناها قسرًا تحت وَابِل مِن الرصاصِ؟!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.