د. محمد علاء يكتب | الكلاب الضالة والمجال العام

0

أدمي قلبي، كما أدمي قلوب كثيرين غيري، واقعة عقر أب دافع بجسارة عن ابنه أمام هجمة كلب شرس، يملكه جاره مدير الإنتاج، وزوجته مقدمة برنامج طبخ علي أحد القنوات الفضائية.
وبقدر ما أدمت الواقعة قلبي، وبقدر دعواتي للأب الراقد في غيبوبة منذ أكثر من شهر على هذه الهجمة الشرسة، أثارت هذه الواقعة في ذهني عديداً من التساؤلات حول خلل الادراك الذي يعانيه مجتمعنا لعلاقة العام بالخاص، ومفهوم المجال العام، وهو خلل أجده منعكساً لدي كثير من المواطنين والمواطنات، والدولة على حد سواء.
أجد هذا الخلل خطيراً. فإذا لم يطمأن المواطنون والمواطنات على أمنهم، سيكون عليهم بناء أسواراً لحماية أنفسهم، وفي هذه الواقعة المأسوية لم تفلح الأسوار في تحقيق الأمن، حيث حدثت هجمة الكلب في كمبوند سكني له أمنه الخاص.
إن دور الدولة أساسه تقديم السلع والخدمات العامة public goods and services، وهي الخدمات التي يُعرّفها حقل السياسات العامة بأنها خدمات لا يمكن قصر الانتفاع بها على فئات معينة non-exclusive، كما لا يتأثر استخدامها بتوسيع نطاق المستفيدين منها nonrivalrous، والمثل الأشهر علي هذه الخدمات هو خدمات الأمن والدفاع، فمتي توافرت هذه الخدمات، لا يمكن قصر الانتفاع بها علي هؤلاء الذين دفعوا ثمنها، كما أن توافر الأمن والدفاع للجميع لن ينتقص من الاستمتاع بهما زيادة عدد السكان أو الوافدين، ومثل هذه الخدمات لن يقدمها القطاع الخاص لأنها لن تدر عائداً، لذا تبقي المسئولية الأولي للدولة.
خلل العلاقة بين العام والخاص صار بارزاً في تصرفات يومية من جميع فئات المجتمع بصرف النظر عن مستويات التعليم أو الدخل.
أصحاب الكلاب المستوردة باهظة الثمن يخرجون بكلابهم الفاخرة لتقضي حاجتها في الشارع ثم يعودون إلى بيوتهم غير عابئين أن الشارع ملكية عامة، ولا يمكن أن يحملونا جميعاً مسئولية كلابهم.
تذكرت المشهد المتكرر الذي كنت أراه خلال أعوام الدراسة والعمل في الولايات المتحدة، صاحب أو صاحبة الكلب بحوزتهم أكياساً بلاستيكية يضعون فيها فضلات الكلب بعد أن يقضي حاجته، ثم يضعوها في حقيبة صغيرة مخصصة لهذا الغرض، ويتخلصون منها بعد العودة إلى المنزل.
هذا السلوك، الذي قد يبدو للبعض مقززاَ، هو تعبير عن إدراك أن الفرد له حرية في ملكيته الخاصة، وهي حرية مقيدة بالقانون، والشارع ملكية عامة تزداد فيها القيود على الممارسات والرغبات الفردية من أجل الصالح العام.
في المقابل لم تجد المذيعة التليفزيونية وزجها غضاضة في ترك كلبهم ليهدد جيرانهم داخل أسوار الكمبوند، فالمجال العام صار مجالاً خاصاً في فهمهم المريض، وهو ما نتجت عنه الكارثة التي وضعت حياة الأب الجسور بين الحياة والموت.
يزداد وضوح الخلل في فهم طبيعة المجال العام، خاصة لدي الشرائح المتعلمة، في التعامل مع الكلاب الضالة، التي صارت تتجول في شوارعنا بالعشرات، وصرنا نري منها أنواعاً جديدة، فبعد أن كان “الكلب البلدي” بالنسبة لأطفال الثمانينيات والتسعينيات كلباً بني متوسط الحجم، صرنا نري كلاباً بيضاء وسوداء ورقطاء، إلخ، وهو ما يعكس خللاً بيئياً، ويمثل خطراً على الصحة العامة والأمن العام، المفترض من الدولة أن تحميهما.
وتبرز هنا كذلك خطورة خضوع الدولة لنفوذ المتنفذين أو جماعات المصالح الضيقة.
بلغ عدد الكلاب الضالة في مصر حوالي 20 مليون كلب وفق تقديرات وزارة الزراعة في سنة 2023، تتسبب في 380 ألف حالة عقر سنوياً وفق تقرير نشرته جريدة الشروق بتاريخ 16 يناير 2023، إضافة إلى حالات وفاة نقرأها بين الحين والآخر، مثل حالة رصدتها جريدة اليوم السابع عام 2018 لشاب صدمته سيارة بحي زهراء المعادي أثناء هروبه من كلاب ضالة، ووفاة طبيبة شابة في حدائق أكتوبر بأزمة قلبية إثر التفاف الكلاب الضالة حولها، رحمهما الله.
لكن يبدو أن السلطات المحلية وجدت في دفوع منظمات حقوق الحيوان ذريعة لعدم التحرك، ومبرراً لعجزها عن أداء مهمتها في حماية الأمن العام للمواطنين والمواطنات، رغم أن هذا لا يبرر الفشل في تقديم خدمات النظافة والتخلص بشكل منتظم من القمامة الملقاة في الشوارع، وهو ما يعد أحد أهم أسباب انتشار الكلاب الضالة، وانعكاس لتراخي السلطات في تقديم خدمة عامة يدفع المواطنون والمواطنات ثمنها في شكل رسوم تضاف إلى فواتير الكهرباء.
مرة أخري أعود للغة السياسات العامة، يجب أن تنبني الحلول على مبدأ ذاتية التكلفة internalizing the costs، بمعني أن يتحمل من يريد الخدمة تكلفتها، وليس فرض التكلفة على الجميع.
ومن سبل حماية الحيوانات الضالة وتحجيم ضررها إنشاء بيوت لإيواء هذه الحيوانات بتمويل من جمعيات الرفق بالحيوان، واستخدام القتل الرحيم، كما يحدث في غالبية الولايات الأمريكية، إذا زاد العدد عن سعة الملاجئ المتاحة، أو عمل حملات لتبني كلاب الشوارع، أو تصديرها، ووقف استيراد الكلاب من الخارج، خاصة الأنواع الشرسة التي أصابت الأب الجسور الذي هاجمه كلب جيرانه.
ويبقي تطبيق القانون وحماية الصحة العامة مسئولية أولي للدولة.
إن أخطر ما يواجه المجتمعات الحديثة هو الاعتقاد بأن تنفيذ القانون صار مسئولية فردية، أو مسئولية لجماعات معينة داخل الدولة.
تبدأ المأساة حين يتطوع شخص بدس السم لكلب عقور، أو يخشى أن يكون عقوراً، مروراً بـ”تشريس” كلب لاعتبارات الوجاهة والسلطة، وينتهي الأمر بحمل السلاح دفاعاً عن ملكية خاصة أو عامة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.