د. محمد علاء يكتب | أهمية وجود مراكز الفكر المستقلة (٢ – ٢)

0

يوجد نموذج من مراكز الفكر ربما لا نوليه الاهتمام الكافي في نقاشاتنا حول هذه المؤسسات، وهو نموذج أكثر وضوحاً في الدول التي لا يوجد بها نفس القدر من التعددية السياسية الموجودة في الغرب، مثل اليابان وكوريا الجنوبية. ويقوم هذا النموذج على وجود مراكز دراسات مستقلة تتخصص في مجالات عمل وزارات معينة. وتكون هذه المراكز في الغالب تابعة لرئاسة الوزراء وبتمويل منها في غالبيته لضمان استقلاليتها وتمكينها من انتقاد سياسات الوزارة التي تتخصص في مجال عملها.
إلى جانب اعتبار الاستقلالية، يمكن تبرير التبعية لرئاسة الوزراء إلى تعقد بعض مجالات السياسة العامة، وتقاطعها مع مجالات عمل عدة وزارات. قضية المخلفات الصلبة، على سبيل المثال، تتقاطع مع مجالات عمل وزارات منها البيئة والاستثمار. ومن ثم يكون تواجد المركز الفكري تحت مظلة رئيس الوزراء مفيداً لضمان استقلالية المركز وقدرته على الوصول إلى بيانات من عدة جهات والدعوة للتنسيق بينها.
مثلاً في كوريا الجنوبية، تنضم مراكز الفكر التابعة لوزارات تحت مكتب تنسيق السياسات الحكومية Office for Government Policy Coordination التابع لرئيس الوزراء، ويترأسه وزير يتولى مهام التخطيط والتنسيق ورسم السياسات الاقتصادية، وهو ما يجعل هذا المنصب أحد أهم المناصب الوزارية.
في هذه المراكز تكون حوالي 50% من الأبحاث بتكليف من رئيس الوزراء أو من الوزارة التي يتخصص المركز في عملها، بينما تقوم المراكز نفسها بالمبادرة في النسبة الباقية من دراساتها من خلال تمويل ذاتي من مصادر متعددة.
في مصر لدينا عدد من المراكز والجهات التي تقدم دراسات سياسية Policy Studies موجهة لصانع القرار، من أهمها مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، وهو الجهة التي تقوم بدور مركز الفكر التابع لرئاسة الوزراء، وربما يقابله في الخبرة الأمريكية مركز دراسات الكونجرس Congressional Research Service، وبينما يقدم الأخير أبحاثه بتكليف من الكونجرس في الغالب، يستجيب مركز المعلومات في مصر غالباً لاحتياجات مجلس الوزراء والوزارات.
كما يوجد في مصر عدد من المراكز التخصصية النشطة في مجالات معينة مثل السياسات الاقتصادية والتعليم والبيئة، كما ظهرت بعض المراكز التي تتبني توجهات فكرية محددة.
نحن في حاجة إلى مراكز فكر متخصصة في عمل وزارات معينة، تكون تابعة من حيث التمويل والتنسيق لرئاسة مجلس الوزارة، ومستقلة بحثياً وتنظيمياً.
وقد أظهر الحوار الوطني أهمية هذه المراكز لضمان مناخ نقاش صحي يضمن توسيع نطاق المشاركة الفعالة.
نحتاج إلى مراكز فكر قادرة ليس فقط على الاستجابة لتكليفات من رئيس الوزراء والوزارات، بل أيضاً قادرة على المبادرة والتواصل مع الإعلام والمشاركة في النقاش العام وتقديم نقد مستقل لسياسات قائمة ودراسات لتقييم سياسات سبق تنفيذها وطرح خطط عملية للإصلاح.
يجب أن تستفيد هذه المراكز من خبرات الأكاديميين والباحثين المتخصصين في مجالات محددة من السياسات العامة، ويجب أن تفتح أبوابها لشباب الموظفين في الجهاز الإداري، ويوجد لدينا في مصر برامج تدريبية رائدة يمكن الاستفادة من خريجيها في شغل مناصب بحثية في هذه المراكز، ومنها برنامج التعاون مع جامعة اسلسكا-مصر لتأهيل القيادات الشابة بالجهاز الإداري للدولة من خلال منحة ماجستير في إدارة الأعمال الحكومية، وكذلك البرامج التدريبية والأكاديمية التي يقدمها المعهد القومي للحوكمة والتنمية المستدامة ومعهد التخطيط القومي التابعين لوزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية.
ويتبني النموذج الكوري هذا النهج من الاستعانة بالبيروقراطية الحكومية في خلق كادر بحثي لمراكز الفكر المتخصصة.
كما يمكن أن تشكل هذه المراكز فرصة للاستفادة بالسياسيين بعد ترك مناصبهم التنفيذية أو التشريعية، وهو نمط مستقر في الخبرة المريكية، ويمثل فرصة للمشاركة في العمل العام والنقاش السياسي حول السياسات العامة من خارج السلطتين التنفيذية والتشريعية، وهو ما يفيد السلطة التنفيذية ذاتها ويضمن توسيع نطاق النقاش العام المستند إلى دراسات مبنية على أدلة بحثية.
والهدف هنا له بعدين: الأول هو تحسين عملية صنع وتنفيذ السياسات العامة، والثاني هو اثراء الحياة السياسية وتوسيع نطاق المشاركة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.