فهد المضحكي يكتب | الجنوب العالمي يبتعد عن الغرب

0

إذا استثنينا بعض دول الجنوب العالمي التي لا تزال مصالح نخبها الحاكمة مرتبطة بمصالح الغرب بطريقة مدمرة لهذه الدول، فتعميق العلاقات الاقتصادية الصاعدة والنهج العملي في اختيار الشركاء يثبت أن هذه الدول – رغم تاريخ بعضها المرتبط بشكل كبير بالأمريكيين مثل رابطة آسيان – قادرة على السعي بشكل مستقل إلى تحقيق مصالحها. للباحث السنغافوري «ماكايشو» رأيا ترجمة اوديت الحسين، يشير إلى الأرقام التجارية بين الصين وبعض دول الجنوب العالمي، وهو ما سيعطينا فكرة مناسبة هنا. وبشيء من التفصيل، اقامت الصين علاقات اقتصادية أعمق مع أفريقيا رغم تحذيرات الولايات المتحدة لهذه الدول من أن تقع «فريسة للاستغلال الصيني». قوبلت تحذيرات الغرب بالتشكيك، فأفريقيا من جهة عانت الكثير في تاريخها المؤلم المرتبط باستغلال الغرب لها، ومن جهة بات هناك أدلة واقعية على أن الاستثمار الصيني قد عزز النمو الاقتصادي وخلق وظائف جديدة في قارة تندر فيها فرص العمل. ووفقًا لاقتصادي التنمية أنزيت وير، نما الاستثمار الصيني في أفريقيا بمعدل سنوي 25% منذ بداية الألفية، وقد خلق بين عامي 2017 و2020 وظائف أكثر من الاستثمارات الاجنبية الأخرى رغم أنه لا يشكل سوى 20% من تدفقات رأس المال الأجنبي إلى أفريقيا. بينما على النقيض من ذلك فقد انتهى المطاف بالاستثمارات والمساعدات الأمريكية – وكامل الغرب – في أيدي الشركات الاستثمارية والتنفيذية الغربية. وكما يلاحظ الصحفي هوارد فرينش: «الولايات المتحدة أصبحت شحيحة وسلبية بشكلٍ متزايد في مساعداتها التنموية، بينما تشارك الصين بشكل كامل في لعبة توفير السلع العامة في جميع أنحاء العالم».

ربما أكثر خطب النفاق الغربي الملموسة في أفريقيا هي حول تغير المناخ والفساد وحقوق الإنسان، فطالما ألقت الولايات المتحدة وشركاؤها الغربيون محاضرات مطولة عن أفريقيا حول الحاجة للابتعاد عن الوقود الأحفوري، لكنهم بمجرد احتياجهم للطاقة بعد الحرب في أوكرانيا، أوقفوا أحاديثهم وبدأوا باستهلاك النفط والغاز وحتى الفحم. الأفارقة مرتاحون مع مساعدات الصين الاستثمارية التي لا تصاحبها شروط مرهقة مثل تلك الموجودة في الغرب، وقد عبر الرئيس الكيني أوهورو كينياتا عن ذلك عندما قال: «شراكتنا مع الصين لا تقوم على إخبار الصين لنا بما يجب أن نفعله.. فنحن لسنا بحاجة إلى إخبارنا بما نحتاجه، فنحن بحاجة إلى شركاء لمساعدتنا في الحصول على ما نريد». حققت الصين نجاحًا مماثلاً في تعميق العلاقات مع أمريكا اللاتينية منذ 2002، حيث زادت التجارة مع المنطقة من أقل من 18 مليار دولار إلى 315 مليار دولار حتى عام 2019 ليرتفع إلى 448 مليار دولار بعد عام واحد في 2020. لاتزال التجارة اللاتينية مع الولايات المتحدة أكبر حجما، لكن 71% من تجارة الولايات المتحدة مع القارة مع المكسيك، ولهذا تجاوزت تجارة الصين مع بقية دول أمريكا اللاتينية. التجارة بين البرازيل والصين هي المثال الأبرز، فقد ازدادت مليار دولار سنويًا في عام 2000 لتصل إلى مليار دولار كل أربعة أشهر. وحتى في فترة حكم بولسنارو الميال للأمريكيين، استمرت العلاقات مع الصين، ما يشير إلى أن البراغماتية هنا باتت متجذرة.

في الماضي لم يكن يُنظر إلى مجموعة الآسيان «رابطة دول جنوب شرق آسيا ASEAN» على أنها منظمة محايدة، فقد تأسست في عام 1967 بدعم قوي من الولايات المتحدة وشجبت كلا من الصين والاتحاد السوفييتي، لاعتبارها أداة في يد واشنطن. لكن التحول العالمي جعل آسيان ودولها تتقارب مع الصين لتوقّع معها في 2002 اتفاقية التجارة الحرة، حيث ازدادت التجارة بين آسيان والصين من 29 مليار دولار فقط في عام 2000 لتصل إلى 669 مليار دولار في 2021، بالمقارنة بحجم التجارة مع الولايات المتحدة التي بلغت 364 مليار دولار. أن الشراكة ببن دول آسيان مع الصين لم تصل بعد إلى ذروتها بل بدأت للتو، فمع اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة التي دخلت حيز التنفيذ العام الماضي، بات هناك قدرة على تحفيز اقتصادات البلدان لتحقيق قفزة أكبر في اقتصاداتها على مدى العقد المقبل. تنتهج دول آسيان نهجًا مصلحيًا في التعامل مع الصين والولايات المتحدة، فبعد انضمامها للشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، انضمت سبع دول من الرابطة إلى المشروع الأمريكي «الإطار الاقتصادي الهندي الهادئ» في إشارة منها إلى أنها تريد الحفاظ على مصالحها أينما كانت. هذا النهج البراغماتي ذاته سيمنع حدوث أي صراع كبير في بحر الصين الجنوبي، فالقرب الجغرافي من الصين يعني حتمًا أن دول آسيان ستواجه تحديات مع الصين، فسلوك آسيان مع الصين عملي في هذا الخصوص، وقد قدمت الصين في الماضي بالفعل بعض التازلات مع جيرانها الأضعف في آسيان. كما أن دول رابطة آسيان ليست متفقة كليًا في بعض المواقع التفصيلية للصراع الأمريكي الصينى، فإذا ما أخذنا قضية شبكات الجيل الخامس وشركة هواوي التي حظرتها الولايات المتحدة، فقد وقّعت إندونيسيا والفلبين عقودًا معها لبناء شبكات الجيل الخامس لديها، بينما لم تفعل ماليزيا وسنغافورة، ولايزال موقف فيتنام ضبابيا رغم عدم توقيعها معها بعد.

لكن تبقى دول آسيان تقيّم مواقفها تبعًا لمصالحها، حيث تضطر أحيانًا لتجاهل الولايات المتحدة إلى حد كبير. فقد عارض الأمريكيون بشدة مبادرة الحزم والطريق الصينيه، لكن معارضتها لم تلقَ آذانًا صاغية فجميع دول آسيان العشر يشاركون في العديد من مشاريع الحزام والطريق، كما أن منطقة جنوب شرق آسيا هي المنطفة الأكثر تقبلاً لاستثمارات الصين الضخمة في البنية التحتية، فمنذ 2020 هناك أكثر من 53 مشروعًا كبيرًا جاريًا في المنطقة. أتت هذه المشاريع ثمارها بشكل ممتاز، فعلى سبيل المثال لاوس التي لاتزال واحدة من أفقر دول العالم تمكنت بفضل مبادرة الحزام والطريق من امتلاك خط سكة حديد عالي السرعة يربط بين عاصمتها فينتيان ومقاطعة يونان الصينيه، ما يعني أن موجةالتجارة والسياحة الصينية ستجتاح لاوس وتجلب معها فرص التنمية. لجأت إندونيسيا بدورها إلى الصين للمساعدة في بناء خط سكة الحديد عالي السرعة من العاصمة جاكرتا إلى باندونغ. لا يمكن للولايات المتحدة أن توقف دول آسيان، على الأقل، لأنها لا تملك أي بديل عملي لمبادرة الحزام والطريق. أما فيما يتعلق بعلاقات الصين بالدول العربية، فتعتبر الثقة الإستراتيجية المتبادلة بين الطرفين أساسًا مهمًا لدفع مبادرة «الحزام والطريق». تتمسك الصين بالمبادئ الخمسة للتعايش السلمي، ويلتزم كل من الصين والدول العربية بالاحترام المتبادل والتعامل على قدم المساواة. وكما يقول الكاتب ووبينغبينغ تدعو مبادرة «الحزام والطريق» المبنية على الثقة المتبادلة بين الصين والدول العربية إلى اتخاذ التنمية كالموضوع الرئيسي في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك إلى تحقيق التنمية الشاملة والاستقرار الداخلي والسلام الإقليمي في العالم العربي. يرى أحد الخبراء، أن الشعوب الآسيوية وشعوب العالم الثالث، بل العالم تستبشر خيرًا بنهضة الصين، لأنها ترى في نهضتها نهضة وفائدة لها. لم تحقق الصين هذه النهضة باستعمار ونهب غيرها، بل حققتها بجهدها الخاص أساسًا، وبتبعية قوى شعبها، وبرسم طريق متوازن لنهضتها يجمع بين تراثها الفكري والتطبيقي من جهة وبين التعلم من التجارب العالمية خصوصًا الغربية من جهة أخري.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.