قصي الصافي يكتب | الهوية الفردية في العصر الرقمي (2-2)

0

للإعلام الرقمي- الموجه من قبل الشركات العملاقة والدول التي تمتلك مفاتيح التحكم ببنك المعلومات والبيانات- آثار خطيره على وجدان وعقل الانسان المعاصر. الابتكارات في مجال تكنولوجيا الاتصالات وتطورها السريع لا يتيح لعقل الانسان فرصة تأمل ومعالجة اثارها السلبية، خاصة ان ذلك لم يكن يوما من اهتمامات الشركات الرقمية التي ينحصر هدفها بالربح وبالمزيد منه.

نسبح في فضاء المنصات الإلكترونية المختلفة كل يوم، نتفاعل مع اناس افتراضيين لا نعرفهم، يتقمص الكثير منهم هويات مستعاره خفية، ومنهم حتى عقول صناعية او جيوش الكترونية موجهة. لكل ذلك اثر كبير على ميولنا ونمط تفكيرنا وفهمنا لانفسنا والاخرين، وبالتالي له اثر بالغ في تشكل هوية رقمية خاصة بنا، هوية متخيلة ترتكز على المحاباة والادعاء والفبركة في كثير من الاحيان، نبدي عواطف واعجابات مبالغ بها ونستقبل مثلها، نظهر صفات لا نمتلكها في الواقع الحقيقي، كأن نظهر مثلا شجاعة التصدي الى حد البذاءة لمن نختلف معه، والتنمر على من نشاء على الانترنيت دون ان نتوقع اي عواقب، .فالآخر المختلف افتراضي، الامر الذي لا نقوى على فعله في الوسط الاجتماعي الحقيقي.

من الظواهر الجلية ايضا لزيف الهويات الرقميه صعود نجم الأغبياء وأصحاب المحتويات الهابطة، أو اولئك الذين يمتلكون القدره على اثارة عواطف وغرائز الاخرين والتلاعب بافكارهم وميولهم ،تلك المكانه التي يتمتعون بها على الانترنيت قد لا يحلمون بحيازتها في اوساطهم الإجتماعية الحقيقية، فتلك المكانه عادة ما يحتلها في الوسط الاجتماعي الحقيقي العالم والمثقف او الكريم وصاحب الاخلاق الرفيعة والمواقف النبيله او المناضل الوطني الحق.

الهوة الكبيرة بين هويتنا الرقمية المتخيلة وهويتنا الحقيقية تستولد حالات من التوتر النفسي والازدواجية المرضية، تودي بنا الى متاهة وعجز عن ادراك كنه ذواتنا، وذلك بسبب العيش تناوبا بين عالمين متناقضين بشكل حاد، ويشتد التناقض لتعدد الهويات الرقمية التي نتقمصها، فللفرد هويات مختلفة -او لنقل اقنعة مختلفة في كل منصة إلكترونية يشارك فيها- تتناقض مع بعضها البعض من جهة ومع الهوية الاجتماعية الحقيقية من جهة اخرى.

تكنولوجيا الاتصالات والتطبيقات الالكترونيه قد يسّرت الانغماس في الفضاء الالكتروني، مما يعني زحف العالم الرقمي على العالم الحقيقي وتقويضه تدريجيا، بمعنى انحسار تفاعل الفرد مع الوسط الاجتماعي الحقيقي، ولم يعد مشهدا غير مألوف ان نجتمع اجسادا في مكان ما وننعزل فكرا وروحا، اذ ينشغل كل منا بالانغماس في عالم الانترنت ولهذا اثر بالغ في تكيفنا على الاوهام والعيش في عالم الماتريكس، فمن طبيعة الانسان مرونة التكيّف عقلا وعاطفةً.

اللحظات الجميلة والاحداث التي تسعد المرء في الواقع المعاش لحظات حقيقية تظل راسخة في الذاكرة، بينما تتحول في الواقع الافتراضي الى عملية حصد لأيموجيات واعجابات من قبل اناس لا يعرفهم، ولا علاقه لهم بحياته، انها لحظات سعادة عابرة تختفي ما إن يبتعد هو عن لوحة المفاتيح، وهذا ما يستولد ضمأ دائما وتوقا مرضيا وبحثا دائما عن تلك اللحظات، هذا اضافة الى ما يسببه من رغبة دائمة للغوص اكثر بعالم الانترنت والانفصال عن الواقع الحقيقي.

من الجنون طبعا إنكار ما قدمته تكنولوجيا الاتصالات من منافع جمة وما وفرته من ادوات متطورة للاستزادة المعرفية وتبادل المعلومات، الا ان الاثار الجانبية على وجدان وفكر الانسان وما يترتب عليه من تفكيك للعلاقات الاجتماعية بحاجه الى اهتمام علماء النفس والاجتماع وعلماء الابستمولوجيا غير المستفيدين من سطوه راس المال واغراءاته، على الاقل للخروج بحصيلة توصيات ودعوات لاصحاب القرار لتشريع وتنفيذ الزامات ومحددات على الشركات المهيمنة على المعلومة وتكنولوجيا .الاتصالات، التي لا يلزمها الآن سوى ضمأها الذي لا يرتوي للارباح.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.