إدريس القابلة يكتب | لعبة الطب النفسي

0

كتاب ” مثبتات العقل” لـ “آن هارينغتون” هو بحث في الأساس البيولوجي للأمراض النفسية. يكشف مسار الطب النفسي ووهم شفاء المرض النفسي وعرض واقعي لتاريخه.

لقد أربك كتاب ” مثبتات العقل” تاريخ نظريات وعلاجات الطب النفسي. وعرض مسيرة الارتباك انطلاقا من مرحلة ما قبل فرويد، والتي اقتربت إلى التعذيب العشوائي اكثر منها إلى العلم أو الطب، فهذا ما كان عليه الطب النفسي؛ ومن المداواة بحمامات الثلج ، وإحداث الغيبوبة بالأنسولين، والعلاج بالملاريا (على أمل أن تشفي الحمّى المرضي، ثمّ يتولى الطبيب بعد ذلك بصورة أساسية علاج الملاريا)، ولأجل هذا كان لدى المشافي مخزون من الميكروبات تستعين به.

كان الطب النفسي وقتها طب عمليات الفص الجبهي للدماغ، فأجريت آلاف العمليات الجراحية عبر مخرز ينفذ من تجويف العين ليُحدث إتلافاً كبيراً في الفص الجبهي للدماغ من أجل أن يُـشفى المريض. وكان طب العلاج بالصدمات الكهربائية بصورة عشوائية، دون تخدير المريض أو أخذ موافقته (لا يزال العلاج بالصدمة الكهربائية يستخدم أحياناً، مع أخذ موافقة المريض وتخديره، كعلاج فعال لحالات الاكتئاب العصي على الاستجابة الأدوية).

كان الطب النفسي وقتئذ طب التحسين الانتقائي للنسل حقا. إذ بدا – وقتئذ- أن العديد من الأمراض النفسية موروثة، والنتيجة المنطقية التي خلص إليها الأطباء النفسيون في مطلع القرن العشرين هي معالجة الأمراض النفسية من خلال عملية التعقيم الإجباري (الخصي) – وكان تعبير “التخلف العقلي” عام تشمل فئات واسعة. أكثر من 60 ألف شخص في الولايات المتحدة أرغموا قسراً على التعقيم الإجباري على مدار القرن العشرين، فقد كان ينظر للأمر كسياسة “تقدمية مستنيرة”، إذ كانت تعني نهاية الفقر والاضطراب النفسي؟!. وقد اعتمد النازيون هذا البرنامج وقاموا بمحاكاته، ثم وسعت نطاق الأمر إلى “القتل الرحيم”، ثم انتهت بتوسيعه إلى القتل الجماعي تحاشيا “للنيل من السلامة العِـرقية للشعب”.

بحلول منتصف القرن العشرين كانت الثقة بالطب النفسي (البيولوجي) قد تلاشت، لكن هذا لا يعني أن صعود الفرويديين كان أمرا حسنا وتطورا؛ لقد كان فظيعا في معظمه على نحو مختلف.

لم يكن فرويد نفسه معنيّا كثيرا بالأمومة. لقد اتضح لديه أن النساء يسعين أساسا لإنجاب الأطفال بدافع الشعور بالدونية لافتقارهن الى القضيب ، إلا أن الهوس المعروف للمدرسة الفرويدية بالأمهات ظهر بصورة أساسية في مرحلة ما بعد الحرب. فقد لعب الأطباء النفسيون دورا حاسماً في التجنيد العسكري، فرفضوا نحو مليوني شاب لأسباب “نفسية عصبية”، لكنهم بعد الحرب وجدوا أكثر من مليوني جندي ممن انخرطوا في الخدمة يعانون مشكلات نفسية حادة (وهي ما نعرفه اليوم باضطراب كرب ما بعد الصدمة واستنتج الأطباء النفسيون أن ذلك ربما كان بسبب خطأ أمهاتهم. فلئن كان إفراط الأمهات في حماية ودلال أبنائهن أمراً سيئاً، وكانت الأمهات المُـهملات غير الودودات أسوأ حالاً، فإن الأسوأ على الإطلاق أولئك المتسببات بالفصام وهن الأمهات اللواتي كـن ما بين الحماية مفرطة والإهمال؛ فهؤلاء مسؤولات عن التفشي الواسع للفصام والمثلية الجنسية التي اجتاحت امريكا في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين. وقد حذر الأطباء النفسيّون البارزون وقتئذ الأمهات بشدة من كونهن يشكلن خطراً جسيماً على الأمن القومي؛ إنهن يقوضّن قدرة أمريكا على الدفاع عن نفسها ضد الشيوعية.

آنذاك كان “الفصام” تشخيصا غامضا، ومع ذلك تم اعتماد التشخيص به على نطاق واسع جدا. فالطفل صعب الطباع كان ذا “فصام طفولي”، سيما أولئك الذين يتجبنون التواصل البصري أو يواجهون صعوبة في فهم الإشارات الانفعالية لمن حولهم. والنساء العازفات عن ممارسة الجنس مع أزواجهن أو أولئك اللواتي لم يرغبن بالزواج أصلاً قد يكن أيضا “فُصاميات”، كما أن الفتيات اللواتي يفتقرن للأخلاق والحشمة قد يكنّ أيضا “فصاميات”، وأيضا كون المرء “غير وطني” ربما يكون عرضا محتملاً.

فلم يتم تصنيف الاكتئاب والقلق كاضطرابات مستقلة في عهد الفرويديين، وبدلاً من ذلك كانت أعراضا للفصام تدل على أن الطاقة النفسية للفرد قد تضرّرت، وأن من شبه المؤكّد أن ذلك بسبب أمهاتهم.

كان العلاج عموماً وقتئذ أن يُدخل الأفراد المصحات مدى حياتهم، مع تقديم دروس قاسية لعائلاتهم التي قادت تربيتهم الرديئة أطفالهم إلى الجنون. كما كان المرضى يعالجون أحيانا بالتحليل النفسي الفرويدي: تأويل الأحلام، واختبار بقع “رورشاخ”، والتداعي الحر، والذكريات المكبوتة، ونحو ذلك. وبالتأكيد، فلم يُـعالج ذلك أحداً، وغالبا الذي تم ادخالهم إلى المصحات ظلوا هناك حتى ماتوا أو إلى حين إغلاق المصحة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.