كريم محمد يكتب | هل ننتج أطباء أم نُصدر أحلام؟

0

في أعقاب الجائحة العالمية، برزت الحاجة المُلحة للكوادر الطبية في ظل نقص حاد بالأطباء عالميًا. وقد استجابت مصر لهذه الأزمة بزيادة عدد جامعات الطب، ساعيةً لسد العجز المحلي وتصدير الأطباء للخارج. لكن هل هذا التوجه يخدم حقًا مصلحة الطلاب المصريين، أم أنه استغلالٌ لطموحاتهم المشروعة في تحقيق المكانة الاجتماعية والمكاسب المالية التي ترتبط بمهنة الطب؟ أم ربما هو نتيجة نقص في المعلومات حول الخيارات المهنية المتاحة، مما يدفعهم دفعًا إلى هذا المسار؟

تسعى مصر جاهدة لسد الفجوة التي خلفتها الجائحة في سوق العمل الطبي العالمي، والاستفادة من الطلب المتزايد على الأطباء المؤهلين. ويُعد تصدير الخدمات الطبية أحد أهم مصادر الدخل القومي، ويمكن لزيادة عدد الأطباء أن تعزز هذا القطاع الحيوي. لكن هذه السياسة تحمل في طياتها تأثيراتٍ متعددة على الطلاب المصريين، فمن ناحية، تفرض عليهم ضغوطًا اجتماعية هائلة، وتفتح أمامهم إمكانية الهجرة إلى الخارج بحثًا عن فرص أفضل. ومن ناحية أخرى، تؤدي زيادة أعداد الجامعات الطبية إلى منافسة شرسة بين الطلاب، وارتفاع في مستويات الضغط النفسي لديهم.

إن التحدي الأكبر الذي يواجه صناع القرار في هذا المجال هو تحقيق التوازن الدقيق بين تلبية احتياجات السوق الخارجي والحفاظ على جودة الخدمات الصحية في الداخل. فالتوسع السريع في الجامعات الطبية قد يؤدي إلى تدهور جودة التعليم، مما ينعكس سلبًا على كفاءة الخريجين وقدرتهم على المنافسة.

لكي نلبي متطلبات سوق العمل العالمي، يتعين على الدولة إدراج دراسة لغات أجنبية متعددة في المناهج الدراسية، مع التركيز على إتقان اللغة الإنجليزية ولغة أجنبية ثانية على الأقل. سيمكّن هذا الخريجين المصريين من المنافسة بقوة في الساحة الدولية، ويفتح لهم آفاقًا أرحب للعمل في الخارج، ويعزز مكانة مصر كوجهة مُتميزة للرعاية الصحية.

لا يقل أهمية عن ذلك تعزيز الدراسات العليا في الطب، فهي حجر الزاوية في بناء جيل من الأطباء القادرين على المنافسة عالميًا. يجب على القيادات السياسية أن تدرك أهمية الاستثمار في هذا المجال، وتوفير مجمعات متخصصة للدراسات العليا، مع تخفيض الرسوم بشكل كبير مقابل التزام الخريجين بالعمل في الخارج لفترة محددة بعد التخرج. ويمكن أيضًا إتاحة سداد تكاليف الدراسة بالتقسيط من أرباحهم المستقبلية، مما يحقق توازنًا مثاليًا بين الاستثمار في الكفاءات الوطنية وضمان استرداد الدولة لاستثماراتها وتعزيز الاقتصاد الوطني من خلال تحويلات العاملين بالخارج.

إن لم تتخذ الدولة هذه الخطوات الجادة، فإن شبح “هجرة الأدمغة” سيخيم بظلاله الثقيلة على القطاع الصحي في مصر. ستشهد البلاد نزوحًا متزايدًا للكوادر الطبية المتميزة بحثًا عن فرص أفضل في الخارج، مما يعمق أزمة نقص الأطباء المتخصصين ويؤثر سلبًا على جودة الخدمات الصحية المقدمة للمواطنين.

إن تخصيص المزيد من المستشفيات لن يجلب بالضرورة أفضل الأطباء المتخصصين إلى مصر، بل قد تدفع السياسات الحالية هؤلاء الأطباء إلى الهجرة، ما لم يتم رفع تكاليف العلاج بشكل كبير لمواكبة الأجور المرتفعة التي يطالبون بها. ونتيجة لذلك، سيبقى الأطباء الأقل تخصصًا في البلاد، مما يفاقم المشكلة القائمة.

بالتالي، فإن مراجعة السياسات القائمة تشكل ضرورة أساسية لتعزيز قدرة الأطباء على الحصول على التعليم العالي، وهو ما من شأنه أن يساعد في سد الفجوة بين العرض والطلب في القوى العاملة الطبية وضمان حصول المواطنين على رعاية صحية عالية الجودة. ويمثل الأطباء أصلًا وطنيًا ينبغي رعايته وتطويره، بدلًا من التعامل معهم باعتبارهم مجرد سلعة للتصدير إلى الخارج.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.