د. نهلة سعيد تكتب | مواد البناء والثورة الخضراء

0

يشهد العالم يوما بعد يوم تطورات سريعة من أجل مواجهة تغيُّر المناخ، فالتقدم التكنولوجى يمهّد الطريق نحو مستقبل منخفض الكربون، يعتمد على المصادر الخضراء المتجددة، وتظل هناك جوانب مظلمة، لم تطلها يد الثورة الخضراء، مثل صناعة مواد البناء. وفي حين تعد صناعتا الأسمنت والفولاذ، العصب الأساسي لقطاع البناء، فإن بصمتهما الكربونية، تعادل مجمل انبعاثات الكربون الناتجة عن جميع أوجه النشاط البشري، والتي تبلغ 16% من المجموع العالمي.
حيث يبلغ الإنتاج العالمي من الأسمنت حاليا نحو 4 مليارات طن سنويا، من بينها 2.8 مليار طن من إنتاج الصين وحدها، وهو مصدر لـ8 % من انبعاثات الكربون العالمية. في حين يبلغ الإنتاج العالمي من الفولاذ نحو ملياري طن سنويا، وهو أيضا مصدر لـ8% من انبعاثات الكربون العالمية. تقنيا، يملك العالم اليوم التكنولوجيا اللازمة للحد من غازات الدفيئة المنبعثة من أغلب القطاعات الخدمية والإنتاجية، مثل النقل والطاقة أو الصناعات الخفيفة والمتوسطة. ولكن تصبح التحديات صعبة عند توفير الطاقة النظيفة للصناعات الثقيلة، بما فيها تصنيع حديد الصلب والأسمنت، ومواد البناء الأساسية.
المشكلة الكبرى في صناعتي الفولاذ الأسمنت، أن إنتاجهما يتسبب في انبعاث كميات ضخمة من الكربون، يصعب تجنبها. فصناعة الأسمنت تقوم أساسا على حرق الحجر الجيري بدرجة حرارة باستخدام الوقود الأحفوري (الفحم أو الديزل أو الغاز) حيث ينتج عن احتراق الحجر الجيري أوكسيد الكالسيوم، وثاني أوكسيد الكربون. ويساهم الوقود الأحفوري في إنتاج ثاني أوكسيد الكربون بدرجة كبيرة. أما تصنيع الفولاذ، فيعتمد على استخدام فرن صهر، لاستخلاص الحديد من خاماته، وفرن أكسدة، يحول الحديد إلى فولاذ. ويستخدم فحم الكوك والأوكسجين للوصول إلى حرارة الصهر، ما يؤدي إلى تشكّل ثاني أوكسيد الكربون كمنتج ثانوي.
من الخيارات المقترحة لجعل صناعة الصلب أكثر أخضرارا استخلاص الحديد من خاماته، باستخدام وقود الهيدروجين بديلا عن فحم الكوك، كي يتحد الأوكسجين الموجود في خام الحديد مع الهيدروجين، لتكوين الماء، وتجنب إنتاج ثاني أوكسيد الكربون. وتختبر شركة سويدية هذه المقاربة من خلال مصنع تجريبي، تقوم ببنائه حاليا لإنتاج صلب من دون بصمة كربونية، وفق تقديراتها.
ووفقا للمؤشرات الحالية، تتوقع الشركة، أن يرفع إنتاج الصلب بالاعتماد على وقود الهيدروجين الكلفة بمقدار 30%، مقارنةً بطريقة الإنتاج التقليدية. وهذه الكلفة، تعد باهظة على مصنّعي الفولاذ من دون دعم حكومي، خاصة إذا علمنا أن هذه الصناعة، لا تحقق تلك الأرباح الكبيرة، التي تتيح لها تغطية تكاليف التكنولوجيا الجديدة المنخفضة الكربون.
ولا يمكن حاليا اعتبار وقود الهيدروجين، هو الحل السحري لانبعاثات الكربون، إذ أن أغلب الهيدروجين المنتج عالميا، يأتي من الوقود الأحفوري، مثل الغاز الطبيعي. مع ذلك، يبقى الهيدروجين حلا واعدا إذا تحسنت جدوى إنتاجه من الماء بالاعتماد على طاقة مولّدة من مصدر متجددة، لتصنيع الفولاذ والأسمنت من خلال الاعتماد بشكل كامل على مصدر طاقة متجدد. مع ذلك يبقى تحويل إنتاج الأسمنت إلى صناعة نظيفة تماما، أمرا شبه مستحيل، لأنها تعتمد في جوهرها على تحرير الكربون من الحجر الجيري.
في بلجيكا، يعمل الباحثون على خفض انبعاثات إنتاج الأسمنت التقليدي، تقوم على بناء برج بارتفاع 50 مترا لالتقاط الكربون المنبعث قبل دخوله إلى الغلاف الجوي. ويتمثل الهدف من هذا المشروع، الممول جزئيا من المفوضية الأوروبية، في إيجاد تقنية جديدة، تسمح بالحصول على تيار نقي من ثاني أوكسيد الكربون بعد فصله عن باقي الغازات العادمة.
إن جميع المقاربات لخفض الانبعاثات الناتجة عن صناعة الأسمنت والفولاذ تصطدم بحائط التكلفة العالية للبدائل الأنظف. في المقابل، يمكن تخفيض الآثار السلبية لمواد البناء، كأي منتج آخر، بترشيد استهلاكها، وضمان استدامتها، كلما كان ذلك ممكنا. وتشير بعض التقديرات إلى إمكانية خفض الانبعاثات الناتجة عن الفولاذ والأسمنت بنسبة 30 إلى 50% بحلول سنة 2050 من خلال ابتكار تصاميم معمارية وإنشائية، تستخدم كميات أقل من هذه المواد، وتدوم لفترات أطول.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.