فتحي البوكاري يكتب | أدب الطفل في العصر الرقمي (3-3)

0

بشكل عام، يهدف المستوى الأوّل، أي “القصّة الصوتيّة”أو القراءة بالأذن، إلى توفير الوصول إلى الأدب والمعرفة للأطفال الذين يعانون من إعاقات بصرية أو صعوبات في القراءة، وتحفيز خيال الأطفال على رسم الأحداث والشخصيات في أذهانهم، وتحسين مهارات الاستماع والتركيز والذاكرة واكتساب المفردات لمتعلمي اللغة.

أمّا المستوى الثاني، أي “القصّة مصوّرة”، فهو عبارة عن شرائط مصورة تظهر على الشاشة وتتكون من صور ثابتة بشكل أساسي مع بالونات المحادثة، يعالج عسر القراءة في العصر الرقمي، حيث يمكن للأطفال استخدام استراتيجيّة القراءة بصوت عالٍ، وهي واحدة من أكثر الطرق فعالية لتعزيز تطوير التواصل اللغوي، ومهارات الفهم حتّى وإن كان النصّ مدعوما بالصور، ومهارات فك رموز الكلمات لديهم محدودة، استراتيجية مختلفة عن القراءة المشتركة والقراءة الموجهة والقراءة المستقلة ودراسة الكلمات.

ولكنّ القراءة من خلال الرؤية دون أيّ دعم للمادة اللفظية بصور إضافية هو الأنسب للطفل، لأن العناصر اللغوية عندما تكون مقيّدة بالرسوم التوضيحية أو بالوسائط الأخرى تضعف مستوى التخييل، وتؤدّي إلى قصور في تطوير طريقة التفكير التحليلي ومعالجة المعلومات اللغوية المتسلسلة، التي تنتقل في شكل حركات وإيماءات في مستوى الإدراك والمشاعر.
من جهة أخرى، يعمل هذا المستوى ككتاب صور سردي مرقمن يمكّن أطفال ما قبل الدراسة، الذين لا يستطيعون فك رموز النصّ، من خلق المعنى من الصور الخالية من الكلمات المصاحبة، والقدرة على فهم الأحداث السردية وتذكّرها بإعادة سرد القصّة بغض النظر عن عجزهم على فك شفرة الكلمات المكتوبة وقراءتها في بالونات المحادثة.
في تقرير مركز تحسين إنجاز القراءة المبكرة عدد CIERA-3-012 (4) المنشور بتاريخ 15/05/ 2001، يعتقد المؤلفان أليسون وسكوت باريس من جامعة ميشيغان أن التفكير السردي للأطفال هو مساهم أساسي في فهم القراءة المبكرة وأن تقييمات التفكير السردي بالصور يمكن أن تحدد الأطفال الذين يعانون من صعوبات (أو نقاط قوة) في الفهم. وبالاعتماد على كتب صور سردية تحتوي على تسلسل واضح للأحداث، سجّل المؤلفان ملاحظاتهما حول سلوكيات الأطفال وتفاعلاتهم أثناء قراءتهم للصور وبعد الانتهاء منها، وفقًا لمخطط مراقبة في تجربة تتكون من ثلاثة مراحل (مشاهدة الصور، إعادة السرد، الفهم الموجه) وخمس أجزاء تقييمية: ردود الفعل العفوية على القصة، وإعادة سرد القصة، وفهم المعلومات الصريحة، وفهم المعلومات الضمنية للقصة، والفهم الكامل للقصة.
وبغضّ النظر عمّا توصّلا إليه من تلك التجربة، فقد كانت فكرة استخلاص الأطفال استنتاجات من الصور حول مشاعر الشخصيات، والحوار، والاستنتاجات السببية، والتنبؤات، والموضوعات، فكرة جيّدة. كما تبع الأسئلة حول المعلومات الضمنية استقصاءات “لماذا” من أجل التمييز بين الأطفال الذين يمكنهم استخلاص استنتاجات “سطحية” وأولئك الذين يمكنهم ربط الاستنتاجات بأحداث أخرى في القصة.
أمّا المستوى الثالث المتعلق بالقصّة التشعبيّة متعددة الوسائط، مجال اهتمامنا بشكل خاصّ لتطبيق مبادئ السرد، فهو مَخبرنا الرقمي لتحويل الأشكال التقليدية من الكتابة، وأساليب إنتاجها ونشرها، إلى الأشكال الحديثة المعروضة على شاشات الوسائط الرقمية، والإنتقال بالنصوص السردية من الخطّية إلى غير الخطّية، ومن الجمود إلى الحركة حيث تظهر فيها جاذبيّة الصورة والحركة متفوّقة على الكتابة، تماشيا مع التغييرات المستمرة في البيئات الاجتماعية والوسائطية.
في هذه المساحة، وبالاعتماد على التكنولوجيا والوسائط المتعددة، قمت ببناء منصّة ككتاب أدبي رقمي بشكله المبسّط وفي حدّه الأدنى، يرتكز على الكلمات والألوان والصورة والصوت والحركة والفيديو والواجهة/التفاعل، بهدف شرح آليات السرد التفاعلي في كتب الأطفال الرقمية بطريقة مبسّطة، آخذا بعين الاعتبار مختلف المستويات.
تختلف وسائل القراءة وأشكال الكتابة وممارساتهما وبيئاتهما من عصر إلى عصر، ومن ثورة معرفيّة إلى أخرى. ومنذ بداية الاستخدام الجماعي للأنترنيت في أواخر الثمانينات، إلى حدّ اليوم، حيث أصبح فيه استخدام التقنيات الرقمية المختلفة (أجهزة الكمبيوتر والإنترنت والبريد الإلكتروني والألعاب الإلكترونية والصور ومقاطع الفيديو الرقمية وما إلى ذلك) أمرًا شائعا في جميع مجالات الحياة، تحوّلت النصوص الأدبية إلى نصوص مشفرة في شكل رقمي، واختلفت الطريقة التي يتم بها إنتاج النصّ الأدبي وإدراكه عن تلك التي كانت في عصر هيمنة الكتابة على الورق. لقد أثّرت التقنيات الرقمية على الأدب على جميع المستويات، بما فيها مستوى السرد.
ونظرًا لكون الأدب الرقمي (السرد الرقمي، والنصوص التشعبية، والكتب الصوتية، والشعر البصري والحركي، والقصص المصورة المتحركة، وما إلى ذلك) تفاعليا مشفّرا يكسّر الخطّية السرديّة، فإنّه يتطلّب تفاعل القرّاء، وقرارات الطفل المستخدم والمسارات التي سيتبعها هي جزء من النص، ويجب أن يكون لها معنى طوال السرد.
على سبيل المثال، لدعم تفاعل الطفل وتأسيس علاقة جديدة بينه وبين النصّ الأدبي إلى حدّ يصبح فيه مؤلفًا مشاركًا، فقد قمنا بطرح خيارات متنوعة تساعده على الانغماس في النصّ، ووضعناها أمامه لإنشاء سرديات مختلفة من المحتوى الموجود.
ولأنّ تكلفةَ مواردَ الوسائط المتعددة، مثل مقاطع الفيديو والمستندات والصور وما إلى ذلك، عاليةٌ، وبسبب قيد الزمن المخصّص لتقديم هذه الورقة، فقد اضطررنا إلى التضحية بجودة التصميم والحد من عدد الخيارات التي يُسمح للمستخدم باتخاذها طوال السرد، بمعنى آخر أنّ المساراتِ البديلةَ المقترحة من المحتوى الجاهز قليلةٌ جدا، وسهلة الاستخدام، لغرض تنفيذ نموذج السرد المتفرّع، ولا تمكن المستخدم من أن يكون له أيُّ تأثير حقيقي على القصة، حيث أن هذه الخيارات كلها مسبقة التأليف ومبرمجة. ولكن بالإمكان التوسّعَ فيها ليكون نموذجًا أكثرَ مثاليةً للسرد التفاعلي داخل عالم القصة.
يتطلّب تصميم بيئتنا التعليميّة نمذجة شخصيتين من القصّة: الأم وطفلها، بالإضافة إلى الكلب وتشكيلَهما في أوضاع مختلفة، وبملامح مختلفة، وبأزياء متنوّعة. لقد استخدمت برنامج DAZ STUDIO لتصميم نماذج ثلاثية الأبعاد، وتحريكها. ويمكن استخدام غيرها من أدوات التصميم الثلاثي الأبعاد وهي كثيرة ومتطوّرة.
عند نقر الأطفال على زر اختيار سرد القصّة التشعبيّة متعدّدة الوسائط في لوح اختيار المستوى يتمّ نقلهم ديناميكيا إلى واجهة المحتوى ذي الصلة للتفاعل مع السرد، يمكن للطفل من خلالها استكشاف القصّة بتنسيق الفيديو، والتي تتغيّر فيها ملامح شخصيات القصّة وأطر الأحداث حسب اختيارات الطفل المختلفة، غالبا ما تعرف تلك الطرق الخاصّة التي ينتهجها الطفل لنقل القصّة باسم السرد التفاعلي.
في قصّة الكلب، من أجل جذب انتباه الطفل وقابليته للتواصل، قمنا بتزويده بطريقتي عرض، أحدهما برسومات مسطّحة، ثنائية الأبعاد، والآخر برسومات ذات بعد ثالث يمثّل العمق. كما مكّناه من قائمة واسعة من الاختيارات لمظهر وأوصاف شخصيات القصّة، وأطرِها المكانيّة. فهو باستطاعته أن يختار لونَ شعر الشخصيّة وبشرتَها وملابسَها، ويجعلها في مستوى عال من الواقعية، أو أن يبتعد عنها ويخترقَ حدودَها إلى المخلوقات الخيالية والأبطال الخارقين. فبفضل هذا التنوّع، يمكنهم رؤية الاختلافات والتعرف على الأشخاص ذوي البشرة الملوّنة ويتآلف معهم.
أمّا الأطر المكانيّة المعروضة عليه، والتي تمثّل مسرح الأحداث والخلفيّة في التحرير المرئي، ففيها المفعّل، وفيها غير المفعّل، والأطر غير النشطة، التي يتمّ تظليلها باللون الرمادي إشارة إلى أنّ الإختيار غير صائب عند النقر عليها، هي لتلك الرغبات التي تجنح بعيدا عن تقاليد المجتمع وقيمه الثابتة، ولكنّ وجودَها في القائمة ضروريٌ ومفيد لتقييم تصوّرات الطفل الذهنيّة. على سبيل المثال، لا يمكن للمستشفى أن يكون إطارا مناسبا للأحداث لعلّة وجود الكلب، ممّا يعني أنّ الإختيار غير موفّق. ولجعل ما لا يكون يكون، أضفنا قائمة منسدلة لاستبدال الكلب بحيوان آخر يختاره.
وبناءً على الأوامر التي يقوم الأطفال بإدخالها مسبقا، يتم إعادة تنظيم المحتوى بما يتوافق مع طلباته، ثم تعرض عليه القصّة من جديد للاستماع. هذا التكرار يهدف إلى تمكين الأولياء والمربّين من مطالبة الصغار بسرد القصّة ووصف شخصياتها بما يطابق اختيارتهم، لتحقيق التطوير المعرفي والأدبي لهم، وتحسين مهاراتهم اللغويّة.
يعد سرد القصص الرقمية أحد أهم الطرق لنقل القيم والثقافة والحياة الاجتماعية إلى الأطفال لتنمية هويتهم. وتعكس موضوعاتها الرقميّة جانبًا تعليميًا وتربويا يخبر القارئ بالغرض العام من القصة. تحتوي قصّة الكلب على موضوع الرفق بالحيوان. وقد تم تقسيم المحتوى الخاص بنا بحيث يصف كل مشهد حدثًا أساسيًا واحدًا. يرتبط كل حدث بعناصر الحبكة مع افتراض أن وقت القصة ووقت السرد لا ينحرفان.
شخصية السارد مغيّبة تماما، هنا، في هذه القصّة الحوارية. ولكن، هناك إمكانية لاستخدام شخصيّة نضالية أو علميّة، ودمجها في نصّ تجربة سردية أخرى، تقوم بالوساطة اللفظية أثناء الحكي ورواية القصّة بدلاً من الشخصيات الأسطوريّة الغريبة أو الشخصيات الحيوانيّة التي تتخذ خصائص بشرية، وهذا مهم، لتعريف الأطفال بالقامات الوطنيّة، وجعلهم مقرببين منهم، مألوفين لديهم، مرتبطين بقيم ثقافة أوطانهم وماضيهم. ودور الأولياء، في مجتمع المعلومات، دور حاسم في تطوير مهارات السرد والفهم لأطفالهم كي يصبحوا قرّاء واثقين وقادرين، وإعدادهم لمتطلبات اللغة المعقدة للقراءة لا يتوقّف عند القراءة المشتركة والتشجيع على إعادة سرد القصة بكلماتهم الخاصة، بل ينضاف إليه المشاركة في اختيار الأنشطة الهادفة والكتب الرقميّة التي تتوافق مع اهتمامات الأطفال، و إنشاء بيئة عاطفية ولغوية داعمة تغذي مهارات القراءة المبكرة وتعزز حب القراءة مدى الحياة.
ومن أجل القيام بهذا الدور على أحسن وجه، يتعين على الأسر، امتلاك الموارد المالية والمهارات الرقمية اللازمة للمشاركة الرقمية، وهذه الإمكانيات غير متوفّرة لدى العائلات ذات الدخل المنخفض. بعض الأسر لا تتمتع بالوصول إلى مجموعة متنوعة من الكتب أو الأجهزة التكنولوجيّة للقيام بهذه المهمّة على الوجه الصحيح.
يواجه بعض الأولياء تحديات مادية تؤدّي إلى خلق فجوة رقميّة وإستبعاد رقمي بين الأطفال الذين لديهم آباء مؤهلون لأجهزة الكمبيوتر وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في المنزل والأطفال الذين لا يملكون هذه الموارد بسبب المتغيّرات السريعة في التكنولوجيا والخوف الناتج عن ذلك من التقادم، بالإضافة إلى التكلفة العالية، للمعدّات والاتصال بالانترنيت. في حين يرى آخرون أنّ الكتب الإلكترونية للأطفال تشتت انتباه الطفل، ويعتبرونها غير مناسبة للقراءة.
أخيرا وليس آخرًا، نذكّر بأنّ أدب الطفل الرقمي قد أصبح جزءًا لا يتجزأ من حياة الأطفال ولا ينبغي للأولياء والمربّين تجاهله. لقد استُخدم أدب الأطفال منذ فترة طويلة ليس فقط للترفيه ولكن أيضًا لتثقيف القراء الصغار وتشكيل فهمهم للعالم. ليصبحوا في النهاية أفرادًا أكثر تأملاً وتعاطفًا ووعيًا اجتماعيًا. أمّا السرد التفاعلي في كتب الأطفال الرقمية فهو يسمح بالتأثير على القصة من خلال الأفعال أو القرارات أو التفاعلات. على عكس السرد الخطي، قد تحتوي القصص التفاعلية على مسارات ونهايات متعددة، مما يمنح الأطفال دورًا في تشكيل الحبكة. يمكن أن يؤدي إدراج الرسوم المتحركة والمؤثرات الصوتية والصور التفاعلية واختيارات القارئ إلى تحويل القراءة السلبية إلى تجربة استكشافية نشطة. لا يقتصر دور القرّاء على تلقي القصة ولكن يمكنهم التفاعل مباشرة مع النص أو الرسوم. قد يتضمن ذلك اتخاذ خيارات تُغيّر الحبكة، أو لعب ألعاب صغيرة مضمنة في السرد، أو التفاعل مع الشخصيات. ويوفر نوعًا من التعليم والتواصل الاجتماعي الذي ينقل أهداف المجتمع ومخاوفه وتوقعاته ومتطلباته.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.