نظرية الاستبطان في علم النفس التي انكرها علم النفس التجريبي تجد في الخبرة المعاشة المكتسبة عن العالم الخارجي والمحيط والحياة التي تحوزها الذات هي معرفة واعية بحد ذاتها. هذا يقودنا الى الاقرار صاغرين ان الذات لا تدرك الاشياء التي لم يكن لها فكرة مسبقة عنها. وهو ماعبّر عنه هوسرل بالوعي القصدي للذات في حمولته هدفه معه قبل ادراكه لموضوعه. هذا يترتب عليه انه لاوعي بالاشياء بلا خبرة مسبقة عنها كموضوعات يدركها العقل. لكن كيف يتخلص الوعي من مأزق تعامله مع المواضيع الغفل التي تصادفه بالحياة ولم يكن يمتلك خبرة مخزّنة عنه.؟
العبارة صحيحة حول نظرية الاستبطان المعرفي او الخبرة المدّخرة بالذات. وهنا نتوقف امام منحيين في تجليّات الوعي كمظهرين. بالمناسبة من وجهة نظري لا يوجد غير وعي واحد مصدره العقل وهو خاصية الذات المدركة للاشياء.
الوعي هو وعي الذات لنفسها بالمغايرة الموجودية وكذلك وعيها انها تمثل الخاصية الجوهرية الادراكية للعقل في تعاملها مع موجودات العالم الخارجي. وحين تكون الخبرة المكتسبة خزين وعي الذات عن العالم الخارجي تكون فعلا معرفة بحد ذاتها.
اشكالية نظرية الاستبطان وعلاقتها بالوعي كنت وتناولتها نقديا في غير هذا المقال. فهي تقّسم الجسد قسمين بالنسبة لعلاقته بالعقل وأيهما يقود الاخر هل العقل يقود الجسم أم الغرائز الفطرية هي التي تقود العقل نحو الاستجابة لاشباعها؟
القسم الاول هو علاقة الجسم بالعالم الخارجي المتمثّل بالموجودات والاشياء في الطبيعة وفي العالم الخارجي عامة. وهذه العلاقة يقوم بتنفيذها الوعي بعملية تخارج معرفي بين الذات ومدركاتها. اما القسم الثاني من الجسم فهو بنك (مصرف) المعرفة الواعية المدخرة التي تمثل الاحاسيس الغريزيزية التي ترسلها اجهزة الجسم الداخلية لغرض اشباعها وهو اشباعات بيولوجية يحتاجها الجسم كي يبقى حيا. مثل الشعور بالعطش والجوع والاحساس بالالم والحزن والفرح والسعادة ورغبة الجماع الجنسي. من الجدير الاشارة له ان القديس اوغسطين توهم قائلا ان الحقيقة موطنها العالم الداخلي للانسان وانكرها عليه ميرلوبونتي مؤكدا ان الحقيقة لا تقع في داخل الانسان الباطني. كما وانكر ميرلوبونتي وجود عالم خارجي للجسد (كائنات الطبيعة وموجودات العالم الخارجي من الاشياء) وعالم باطني(الاحاسيس والغرائز الفطرية والمكتسبة) وهي رغم انكار ميرلوبونتي لها فهي اشباعات غرائزية فطرية اشباعية موطنها عالم الانسان الباطن ودورها فاعل واكثر اهمية من تنظيم علاقة العقل بعالم الانسان الخارجي.
الخيال والوعي
الخيال الذي لا يخضع لا للحس ولا للحدس ولا للوجدانات ولا للقيم (الاكسيولوجيا) ولا للمدركات العقلية ولا تداولية اللغة يكون معطّلا في التوصّل لحقيقة الشيء او وجوده حتى لو كان متخيّلا عقليا في الذهن فقط,. فالخيال لا يمنح وجود الشيء او الاشياء كمتعينات مادية او تخييلية وجودها التجريدي من غير تشيؤها ذهنيا على شكل صور تمثّلية ومن ثم لغويا في حال الحاجة التعبير عنها كمواضيع للفكر, ومن غير التفكير بالوجود باللغة الصامتة عقليا, او المنطوقة الصائتة كلاما شفاهيا او مكتوبا او تصويريا ,يكون الواقع الخارجي عدما والتفكير به معدوما تماما, ويصبح الوجود باكمله غير فاعل ولا موجود في استقلاله الخارجي عنا,.
عندما ننصرف عنه واقعيا ومحاولتنا التفكير به وادراكه خياليا في غير قدرة وتعطيل الخيال على تجسيده كمتعين ذهني(لغويا) على الاقل يستطيع الاخرون فهمه كموضوع او كوجود قابل ان يكون في بعضه او في جله واقعا, وكون الشيء غير متحقق الوجود لا عقليا ولا متعينا ذهنيا كموضوع معبّر عنه لغويا او بأية واسطة أخرى تواصلية يعني ذلك عدم ادراك الوجود حقيقة, حتى لو كان ذلك الوجود متعينا ماديا بالنسبة لغير الذات المفكرة به من قبل الاخرين….
الخيال مجرد لوحده يفتقد فاعلية الادراك العقلي للموضوع ولوجود الاشياء ما لم يكن مزوّدا بمدركات قبلية مخزّنة بالذاكرة تجريبية اوحسّية مادية او حتى فطرية غرائزية على الاقل عن الموضوع المفكّر به خياليا تحت رقابة العقل ووصايته على الخيال, ومن دون رقابة العقل على تخيّلاتنا,تكون تلك التخيلات هلوسة هذيانية لا اكثر سواء في صمتها او اصواتها الهستيرية الغاضبة غير المفهومة.
فمن المتعذّر ان يفكر الانسان العاقل خياليا في شيء غير متعين ذهنيا في تفكيره, حتى لو كان وجود ذلك الشيء ماديا واقعيا في الخارج, فما لا يدركه فرد يدركه اخر آو اخرين في الواقع. لذا اجد ان مقولة ديكارت كما اطلقها وجرى تداولها فلسفيا اكثر مقبولية منطقية قبل اضافة هوسرل( انا افكر (في شيء مقصود)……..اذن انا موجود) لان ما اراده ديكارت يعني ضمنا حاجة الفكر لمادة يفكّر بها,معزولة ومفصولة عنه وهو ما لايقّر به هوسرل فعنده الذات هي الموضوع في تلاحمهما واندماجهما ومن الخطأ الفصل بينهما.