محمد الفقي يكتب | أوليفر ستون.. سينما تتخفى وراء قضية (2 – 2)

0

لا تخرج سينما أوليفر ستون عن أربعة أنواع: الرعب، والحرب، والسلطة والسياسة، وعالم المال والأعمال. البون ليس شاسعاً بينهم، حتى لكأن العوامل المشتركة التي تجمعهم أكثر مما يمكن تصوره من الوهلة الأولى، بل تكاد تكون جميعاً لحناً واحداً معزوفاً بتوزيعات متنوعة. أما أسلوبه فخاص به متفرد، يمكن تلمسه بسهولة في أي من أعماله بغض النظر عن نوعيته.
لا يترك أوليفر ستون أداة سينمائية إلا ويوظفها. ولعله لا يوجد في السينما المعاصرة سينمائي له مبلغ شهيته في استخدام حيل السينما وأدواتها. فنياً، هو من أرومة هتشكوك؛ ملك ملوك التقنية والصنعة، وإن اختلفت الأساليب والغايات.
على سبيل المثال، يمزج ستون الدراما مع الوثائقية مع سادية أفلام الرعب مع السريالية والكوابيس في أفلام مثل (الفصيلة)، و(جون كينيدي)، و(نكسون)، و(قتلة بالفطرة Natural Born Killers، 1994)، وهو الأسلوب الذي نجد بذوره في أولى أفلامه (النوبة Seizure، 1974)، وثانيها (اليد The Hand، 1981.)
ينتقل من الحاضر إلى الماضي إلى الكوابيس إلى الوثائق الأرشيفية المرئية والصوتية في (نكسون)، أو ينتقل من الحاضر إلى الماضي إلى الماضي الأبعد ثم الأقرب ثم إلى الحاضر مرة أخرى في (الإسكندر Alexander، 2004.) أو ينتقل من الحاضر إلى الماضي وطفولة الشخصيات الرئيسية في (قتلة بالفطرة)، ويمسرح مشاهد فلاش باك الطفولة على نحو كاريكاتيري ساخر بأسلوب الستكوم كوميدي، مع إضافة أصوات ضحكات وتصفيق متفرجي الصالة.
كثيرًا ما يلجأ ستون إلى لقطات الأبيض والأسود، إما لتصوير ما يدور في خلد الشخصية، أو كوابيسها وهواجسها، أو أمانيها. أو قد يستعملها أحياناً في مشاهد الفلاش باك، كما في (الاستدارة U Turn، 1997)، وأحياناً أخرى في مشاهد الوثائق المرئية، كما في (جون كينيدي)، و(نكسون.)
من علامات أسلوبه المميزة أيضاً توظيفه للقطات الإقحام “inserts” في صلب الفيلم. أحياناً يقحم لقطات قصيرة من داخل سياق الفيلم نفسه بأحد مشاهد الفيلم؛ كاستعماله للقطات عدو الخيول في (نكسون)، في مشهد يجمع بين نكسون وإدجار هوفر في حلبة سباق الخيل. وفي أحيان أخرى يقحم لقطات من خارج سياق الفيلم تماماً؛ كحقن لقطات لسباق العربات الرومانية في محادثة بين مدرب الفريق وأحد اللاعبين في (يوم أحد عادي Any Given Sunday، 1999.) أو حقن لقطات ميكروسكوبية لصراع خلايا الأميبا، أو لقطات من الطبيعة (لتجمعات من النمل، أو تلقيح النحل للزهور، أو جوارح تقتات على جيفة ثعلب.. إلخ)، أو لافتات محلات وإعلانات الطرق، أو صور أرشيفية لأخطر المجرمين في التاريخ الأمريكي، كما في (الاستدارة)، و(قتلة بالفطرة)، و(نكسون) على سبيل المثال. قد يتم هذا التوظيف من أجل التوضيح والكشف، أو من باب “بضدها تتضح الأشياء”، أو كرموز، أو لتكثيف المعاني، لكن على كل حال يستخدم ستون مونتاج أيزنشتاين الفكري مستهدفاً الجمع بين لقطتين لتوليد المعاني، بحيث يكون الناتج عن تتاليهما أكبر من حاصل جمع كل منهما على حدة.
نستطيع أن نضيف شيئاً جديداً إلى ما سبق، وهو أن أسلوب التشظية الذي ُاشتهر به، والذي كثيراً ما يبنى عليه أعماله، ليس حباً في الشكلانية بحد ذاتها أو الإيقاع السريع اللاهث، وإنما لأن التشظية وسرعة الإيقاع وقصر طول اللقطات هو الأسلوب الأجدر للتعبير عن رؤيته للحياة المعاصرة، وما يسود عوالم السياسة والحرب والاقتصاد من فوضى وكابوسية، والتي تمتد لتشمل الحياة العاطفية، والممارسات الفنية، بل وحتى المنافسات الرياضية في اقتصاد السوق؛ كما رسم لها صورة واضحة في (يوم أحد عادي)؛ عارضاً كيف يفسد المال، وعقود اللاعبين، والبزنس الرياضي، والإعلانات التلفزيونية، نقاء اللعبة. يخلق أوليفر ستون من خلال اللقطات الفلاشية السريعة انطباعاً قوياً، لا بحقيقة المكان فقط، بل وبجوهر الشخصية في الأساس، وروح العصر بأكمله.
أما عن شريط الصوت فهو لا يقل تعقيداً عن الصورة في أعماله. من باب ضرب الأمثلة، نسمع في (قتلة بالفطرة) موسيقى وأغان أمريكية شعبية، وأخرى كلاسيكية، وثالثة هندية، ممزوجة جميعاً بأصوات من الأرشيف الإذاعي والتلفزيوني من حقب مختلفة، وهكذا.
يجدر أن نشير هنا إلى أن الوسيلة عند أوليفر ستون لا تسبق الغاية، وإنما الغاية هي التي تحدد الوسيلة والأسلوب الفني. هو في هذه المسألة على نقيض هتشكوك، الذي كثيراً ما كان يختار فيلمه، أو بعض مشاهده، لتجريب تقنية جديدة، أو فكرة أسلوبية خطرت بباله.
كلما أمعنا النظر في أعمال أوليفر ستون، القابلة لتكرار المشاهدة، رأينا أنه أستاذ عظيم في التقاط التفاصيل البصرية متناهية الصغر. هذا الضرب من البلاغة السينمائية نجد مثلاً قوياً له في (نكسون)؛ فبلقطة قصيرة سريعة لإدجار هوفر، مدير الإف بي آي المرعب، عَبَّر عن مثليته بأبلغ من خطاب طويل شارح. فإذا ما أضفنا أيضاً أنه أستاذ عظيم في متناهي الكبر؛ أي القيم العليا والتنوير، كما سبق وقدمنا، يكون جملة القول في أوليفر ستون إنه من مفاخر فن السينما.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.