محيي الدين إبراهيم يكتب | مصر القديمة.. مهد الدراما

0

حين نتأمل تاريخ الفنون عبر العصور، تتجه الأبصار سريعًا نحو اليونان الكلاسيكية بوصفها موطن التراجيديا والدراما المنظمة، لكن ما يغفله كثيرون، عن جهل أو تجاهل، أن أقدم البذور الدرامية والفنية قد نبتت على ضفاف النيل، في مصر الفرعونية، قبل أن تصل إلى أثينا بقرون طويلة.
لقد عرفت مصر القديمة فنون الأداء الطقسي، والنصوص الشعائرية التي كانت تتخذ طابعًا تمثيليًا منظّمًا، وهو ما يعدّه كثير من المؤرخين نواة أولى لما نسميه اليوم بـ”المسرح” و”الإخراج المسرحي”. لم يكن المصري القديم يكتفي بكتابة النصوص المقدسة أو إنشادها، بل ابتكر لها مشاهد حركية، وأزياء، وموسيقى، ومواقع أداء محددة، بل وتوزيعًا للأدوار، وسينوغرافيا أولية – كل ذلك بإشراف كاهن-مخرج يشرف على تماسك المشهد العام، ويضبط التفاصيل بدقة.
أحد أبرز هذه العروض ما يُعرف بـ”دراما أوزيريس” في مدينة أبيدوس، والتي تناولت سردية قتل الإله أوزيريس وقيامته، وهي طقوس استمرت لقرون، وشارك فيها الجمهور بوعي شعائري عميق. هذا العرض، الذي دوّنه علماء المصريات مثل وليم فلاينت وجيمس هنري برستد، شكّل – بحسب تحليل الباحث المسرحي الفرنسي جان جاك روسو – أول عرض درامي مكتمل الأركان عرفه التاريخ الإنساني.
بل إن المؤرخ الإغريقي هيرودوت، في رحلته إلى مصر، أقرّ بأن كثيرًا من الطقوس الدينية والاحتفالية في بلاد الإغريق قد نُسخت عن النموذج المصري. وهذا ما يؤكده الباحث الألماني هانس زيدلماير في دراسته المقارنة بين المسرحين المصري والإغريقي، حين قال: “ما فعله الإغريق هو تحويل الرمزية الدينية المصرية إلى أسلوب تراجيدي دنيوي فلسفي”.
ومن خلال اليونان، انتقلت هذه المفاهيم إلى الرومان، ومنهم إلى أوروبا، فالعالم. لكن لبّ الإبداع، وروح الإخراج الأولى – بمعناها الجوهري كمزج بين النص، والأداء، والصورة، والصوت، والإشارة – ظهرت أول ما ظهرت في مصر، لا بوصفها ترفًا فنيًا، بل طقسًا وجوديًا يعيد عبر التمثيل تشكيل العالم.
إن الحديث عن “الإخراج المسرحي” لا يمكن أن يكتمل دون الإقرار بأن مصر القديمة، قبل أن تُنتج كهنة، كانت تُنتج مخرجين.
تاريخ الإخراج المسرحي… دروس من الماضي ونظرات نحو المستقبل:
منذ فجر الفن المسرحي، ظهر دور مميز لمن نسميه اليوم “المخرج”. هذا الفنان، الذي لا يظهر غالبًا تحت الأضواء، يُعدّ القائد الحقيقي خلف كواليس العروض المسرحية والسينمائية. في دراسة نقدية نشرها الأستاذ قاسيموف ج. والأستاذة إسكنداروفا ز. من قسم “إخراج السينما والتلفزيون” في جامعة أوزبكستان الحكومية للفنون (UzDSMI)، تحت عنوان: “نظرة على تاريخ الإخراج وأهمية دراسة تجارب الدول المتقدمة في تدريب المخرجين المهرة”، نستكشف تطوّر هذا الفن، ونقف عند محطاته التاريخية الكبرى وأبرز رواده.
المخرج بين الماضي والحاضر: منذ العصور الإغريقية، كان ثمة شخصية محورية تدير المشهد وتضبط إيقاع الأداء، وإن لم يُطلق عليها اسم “مخرج”. أدولف وينده، أحد الباحثين في تاريخ الإخراج، أشار إلى أن قائد الكورس في المسرح الإغريقي كان هو من يؤدي دور المخرج؛ يوجه أماكن الوقوف، ينظم الرقصات والحركات، ينسق الملابس والأقنعة والمؤثرات الصوتية. حتى المسرحي الشهير أريستوفانيس كان يُخرج أعماله بنفسه، يعلم الممثلين الأداء الحركي والنغمة الصوتية لكل شخصية.
أما المسرح الإيطالي القديم، فقد تميز باتساع عروضه وتنوعها مقارنة بالإغريقي، مما يعكس تطورًا مبكرًا نحو الفن الجماهيري.
من ستانسلافسكي إلى المسرح الأوزبكي
في بداية القرن العشرين، بدأت ملامح الإخراج الحديث تتبلور مع نظريات ستانسلافسكي وتلامذته مثل مايرهولد وتايروف وفختانغوف. وقد أثرت هذه المدرسة تأثيرًا مباشرًا على المسرح الأوزبكي من خلال خريجي معهد موسكو الذين جلبوا أفكارها معهم. كانت العروض مثل “باداركوش” لـ بهبودي، و”هل من السهل أن تكون محاميًا؟” لـ أفلوني، و”الحياة المسمومة” لـ حمزة، تدار غالبًا من قبل الكاتب أو المعلم، لكن مع الوقت ظهرت الحاجة إلى دور مستقل ينظم الإضاءة، الموسيقى، الحركات، والديكور.
غوته… حين يصبح الشاعر مخرجًا:
يُعتبر يوهان فولفغانغ غوته أول من استخدم لفظ “مخرج” بمفهومه الحديث. لم يكتفِ غوته بكتابة النصوص، بل أدار العروض كمخرج، مهتمًا بالتكامل الجمالي للمشهد: من الديكور، إلى الحركات، إلى نوعية الصوت، ومواقع الممثلين على الخشبة. كان يؤمن بضرورة أن يكون الممثل أقرب إلى التمثال الفني، وأن يكون تأثير العرض نابعًا من الصورة الجمالية بقدر ما هو من الأداء التمثيلي.
من فيينا إلى برلين… ميلاد المخرج المحترف:
في القرن التاسع عشر، طرأت تحولات كبيرة على المسرح في فيينا، خصوصًا في مسرح بورغ بقيادة شراي فوغل، الذي طبّق أفكار أستاذه زوننفيلز عمليًا. تبنى فوغل مبدأ “التكوين الجماعي”، حيث يُنظر إلى العرض ككل متكامل وليس كمجموعة مشاهد. وفي ألمانيا، أسس ظهور “مسرح شكسبير” بداية حقبة جديدة مع مخرجين إصلاحيين مثل إيمرمان، يوهان وثيكه، الذين أصبحوا أعمدة في تطور الإخراج المسرحي.
الإخراج اليوم… ما بين التقنية والروح:
رغم التطور الهائل في التقنيات الرقمية، إلا أن الحاجة إلى المخرج المبدع، العارف بالفنون البصرية، الموسيقى، الأدب، والتقاليد الوطنية، تزداد يومًا بعد يوم. كما تبرز الحاجة الماسة إلى اكتشاف وتدريب مخرجين شباب يمتلكون الحس الفني، والقدرة على التنظيم، والتفكير الإبداعي. وتشير الدراسة إلى ضرورة إدراج تاريخ الإخراج كمادة أساسية في برامج التعليم، لأنه لا يمكن بناء مستقبل مسرحي أو سينمائي قوي دون معرفة الجذور والأسس التي قامت عليها هذه المهنة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.