مؤمن سليم يكتب | الليبرالية وحقوق العمال

0

قبل ثلاث سنوات من إعلان الأول من مايو عيداً للعمال خلال المؤتمر الإشتراكي الثاني في باريس عام 1889، بدأت أحداث “هايماركت” عام 1886 والتي كانت عبارة عن مظاهرات (للعمال) للمطالبة بتقليل ساعات العمل من اثنتا عشرة ساعة إلى ثماني ساعات، وحاولت الشرطة حينها فض المظاهرات بشكل سلمي، إلى أن ألقيت قنبلة على قوات الشرطة، أدت إلى مقتل سبعة من رجال الشرطة وإصابة العشرات، وهو ما ردت عليه الشرطة بإطلاق النار على المتظاهرين مما تسبب في مقتل وإصابة عدد من المتظاهرين. وسببت تلك الأحداث حالة من الأحتقان ضد الحركة العمالية، خاصة الأشتراكيين والفوضويين الذين ألقوا القبض عليهم.
وعلى الرغم من تصدر الأشتراكيين لقضايا العمال، والترويج لإستغلال الرأسماليين أو أصحاب الأعمال للعمال، وأن (الليبرالية) ضد العمال وحقوقهم، إلا أن الفلسفة الليبرالية أعمق من ذلك، فالليبرالية تؤمن بحرية الفرد بما تشمله من حرية التعاقد والعمل والتنقل، ومن هذا المنطلق يمكن القول أن نضال العمال من أجل ظروف عادلة هو ممارسة لحقهم في الحرية والمساواة، وهما ركيزتان ليبراليتان.
كما أن الليبرالية الأجتماعية والتى ظهرت لاحقاً، دعمت بقوة حقوق العمال (خاصة في القرن العشرين)، كجزء من تطور الليبرالية من التركيز فقط على الحريات السلبية (عدم تدخل الدولة) إلى الأعتراف بالحريات الإيجابية (مثل الحق في التعليم، الرعاية الصحية، العمل)، ومنها سعت لتحقيق العدالة الاجتماعية ضمن إطار السوق الحرة، بل إن كثيراً من المكاسب العمالية مثل الحد الأدني للأجور وساعات العمل، ودمج الموظفين ضمن العمال بعد أن كانت قاصرة على أصحاب الأعمال اليدوية، جاءت بدعم من الليبراليين.
ففي كتابه “مبادئ الأقتصاد السياسي” أبدى (جون ستيوارت ميل) تعاطفاً مع العمال وانتقد الظروف القاسية التي يعملون فيها خلال الثورة الصناعية، ورأى أن تحسين أوضاع العمال مثل (الأجور،الظروف المعيشية، توفير تعليم للطبقة العاملة) ضرورى لتحقيق مجتمع عادل، كما دعا إلى إصلاحات إجتماعية مثل تقليص ساعات العمل وتوفير تعليم للطبقة العاملة، معتبراً أن ذلك يعزز الحرية الفردية والتقدم الاجتماعي، وكان يري أن أن الحرية الحقيقية لا تُختزل فقط في غياب القمع، بل تشمل أيضًا تمكين الناس من عيش حياة كريمة.
كما كان من أوائل الليبراليين الذين دافعوا عن شرعية النقابات العمالية في كتاباته، وأقر بحق العمال في التنظيم والتفاوض الجماعي لتحسين أجورهم وظروفهمم، ورأى أن النقابات يمكن أن توازن القوة بين العمال وأصحاب العمل، مما يعزز من العدالة في السوق، وأن “النقابات ليست عائقاً أمام السوق الحر، بل جزءً منه” إذا كانت تعمل ضمن إطار قانوني، وبشرط أن تكون أنشطتها سلمية وتهدف إلى تحسين الأوضاع دون تعطيل الاقتصاد.
وهناك (ويليام بيفريدج) وهو الاقتصادي والمفكر الليبرالي ومهندس دولة الرفاه البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية، والذى وضع تصوراً لدولة توفر تأميناً صحياً، وتعليماً مجانياً، وحماية للعاطلين عن العمل، وكان يهدف إلى تمكين العمال من حياة أكثر عدالة وكرامة داخل اقتصاد السوق، فعلى الرغم من تركيزه على القضاء على البطالة والذى كتب عنها في كتابه ” التوظيف الكامل في مجتمع حر” أن العمل ليس مجرد حق، بل أساس للكرامة والاستقرار الأجتماعي، إلا أنه دعم حقوق العمال بشكل غير مباشر من خلال تأييده للتأمين الاجتماعي الذى يحمي العمال من المخاطر مثل البطالة أو المرض.
وأيضاً هناك (جون مينارد كينز) والذى دعم تحسين ظروف العمال كجزء من رؤيته لاقتصاد مستقر ومجتمع عادل، ففي كتابه “النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقود” ركز على أهمية تقليل البطالة وزيادة الطلب الكلي، مما يفيد العمال بشكل غير مباشر من خلال توفير فرص العمل، ورأى أن تحسين الأجور وظروف العمل يساهم في زيادة “الإنفاق الإستهلاكي”، وهو عنصر أساسي في نظريته لتحفيز الاقتصاد، كما كان له موقف معتدل تجاه النقابات العمالية ولكنه كان يفضل أن تعمل ضمن إطار تعاوني مع أصحاب الأعمال والحكومة بدلاً من النضال الطبقي الذى دعت إليه الحركات الاشتراكية، لكنه حذر من أن الزيادات المفرطة في الأجور قد تؤدى إلى التضخم أو تقليل القدرة التنافسية للأقتصاد، فدعا إلى التوازن بين مطالب العمال واستدامة الاقتصاد.
وخلال فترة حكم الرئيس الأمريكي روزفلت وهو ليبرالي إجتماعي والذى أطلق “الصفقة الجديدة” صدر قانون العمل الوطني “قانون فاغنر”، والذى كفل للعمال الحق في تشكيل النقابات والإنضمام إليها، وحمى حق التفاوض الجماعي مع أصحاب العمل، ومنع أصحاب الأعمال من التدخل في أنشطة النقابات أو معاقبة العمال بسبب نشاطهم النقابي، كما قام بالإشراف على قانون معايير العمل العادل، والذي قام بتحديد الحد الأدني للأجور لأول مرة في التاريخ الأمريكي، وفرض حد أقصى لساعات العمل (40 ساعة أسبوعياً) مع دفع أجور إضافية للعمل الإضافي.
وفي مصر وأثناء حكومة حزب الوفد أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات وهو حزب ليبرالي قومي قدم دعمه للعمال ضمن إطار تحسين الرأسمالية وليس تغيير النظام الاقتصادي، حيث شهدت مصر بعض الإصلاحات التي استهدفت تحسين أوضاع العمال، فمثلاً ساهم فؤاد سراج الدين في إصدار تشريعات تدعم حقوق العمال وتنظيماتهم، مثل قانون النقابات العمالية عام 1942، والذي سمح بتشكيل نقابات عمالية، وقانون عقد العمل الفردي الذي هدف إلى تنظيم العلاقة بين العمال وأصحاب العمل، مع توفير بعض الحماية للعمال من الاستغلال.
كما تضمنت فترة حكومات الوفد محاولات لإدخال مفاهيم الضمان الإجتماعي، وإن كانت محدودة بسبب ضعف الموارد الإقتصادية والتأثير البريطاني على الاقتصاد المصري، وأيضاً هناك قانون إنصاف الموظفين والذى صدر خلال فترة الوفد، بهدف تحسين ظروف الموظفين الحكوميين بما في ذلك العمال في القطاع العام.
لم تكن الليبرالية، التي تقوم أساساً على الفرد وحقوقه وحرياته، لتبرر بأي حال من الأحوال قهر فرد لصالح آخر أو إخضاعه لجماعة، بل تنطلق من مبدأ المساواة في الكرامة والحرية. وتُعد الحريات التي تتبناها الليبرالية جوهرًا لفلسفتها، غير أنها لا تتحقق بصورة فاعلة إلا من خلال ضمان فرص متكافئة وتمكين الإنسان كفرد حر، سواء أكان عاملاً أم صاحب عمل. وفي هذا السياق، يمثل دعم حقوق العمال (من أجور عادلة وظروف عمل صحية) جزءًا لا يتجزأ من التصور الاقتصادي الليبرالي، الذي ينطلق من أن قيمة السلعة تتحدد أساسًا بكمية العمل المبذول في إنتاجها، وفقاً للمنظور الكلاسيكي.
تاريخياً، حافظت الليبرالية على قدرتها على التطور وعدم الجمود، مما منحها مرونة البقاء والانتشار. وقد شهدت نظرية “الأجور الحديدية” — التي تعرضت لانتقادات واسعة — مراحل تطور متعددة، بدءاً من أفكار توماس مالتوس المتعلقة بالسكان، مروراً بصياغة ريكاردو التي ربطت الأجور بمستوى الكفاف نتيجة توازن العرض والطلب. لكن هذا التفسير لم يكن نهاية المطاف؛ فقد جاء جون ستيوارت ميل والاقتصاديون الكلاسيكيون الجدد ليسلطوا الضوء على أهمية الإنتاجية ودور النقابات، مؤكدين أن الأجور ليست مجرد نتيجة تلقائية لعوامل السوق، بل تتأثر بالقوى الاجتماعية والتنظيمية. وجاءت الثورة الكبرى على هذه النظريات مع جون ماينارد كينز، الذي أنهى هيمنة النظرية التقليدية للأجور، مؤكدًا على صلابة الأجور وعدم مرونتها، وأبرز دور الدولة في التدخل لتصحيح اختلالات السوق، خاصة في فترات الركود والبطالة.
رغم أهمية تلك المراحل في تشكيل فهمنا لسوق العمل خلال الثورة الصناعية وما بعدها، فإنها أصبحت أقل ارتباطاً بالواقع الاقتصادي الحديث، في ظل تطور التشريعات العمالية والتقدم التكنولوجي والذكاء الاصطناعي الذي أعاد تشكيل مفهوم العمل والإنتاج والعدالة الاجتماعية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.