د. ناصر الجيزاوي يكتب | الجامعات واستثمار المعرفة

0

مع تسارع التطور العلمي والتكنولوجي، أصبحت المعرفة القوة الحقيقية التي تُشكل مستقبل الأمم. واليوم، نقف أمام تحدٍ كبير ومسؤولية عظيمة، وهي ضرورة استثمار الجامعات في المعرفة، ليس فقط لضمان جودة التعليم، بل لدفع عجلة الابتكار، وتعزيز الاقتصاد القائم على المعرفة، وتحقيق التنمية المستدامة.
لتحقيق هذا الهدف، لا بد من فتح المجال أمام مناهج متعددة التخصصات تُشجع على التفكير النقدي وحل المشكلات بطرق مبتكرة. كما ينبغي توفير بيئة محفزة تُقدّر البحث العلمي، وتُكافئ الإبداع، وتُشرك الطلاب في عملية إنتاج المعرفة بدلاً من الاكتفاء بتلقينها.
علاوة على ذلك، يجب أن تنفتح الجامعات على المجتمع المحلي والدولي من خلال شراكات فعالة مع مؤسسات المجتمع المدني، والقطاع الخاص، والجهات الحكومية. فالتكامل بين الأطراف المختلفة يعزز من فاعلية المعرفة ويوسّع من أثرها، لتصبح الجامعات بحق جسورًا للربط بين العلم والتطبيق، وبين الطموح والواقع.
إن الجامعات ليست مجرد مؤسسات تعليمية، بل هي مراكز للإبداع والتفكير النقدي، وبيئة خصبة لتطوير الأبحاث العلمية التي تؤثر إيجابًا على المجتمع والاقتصاد. فبفضل الاستثمار الذكي في البحث العلمي والتعاون بين الجامعات والصناعة، يمكننا بناء كوادر مؤهلة وقادرة على قيادة المستقبل بخطى ثابتة.
دعونا نؤكد أهمية هذا الاستثمار، ونعمل معًا على تعزيز دور الجامعات كمحركات للتغيير والتقدم. فالمعرفة ليست رفاهية، بل هي أساسٌ نبني عليه مستقبلًا أكثر إشراقًا لنا ولأجيالنا القادمة. استثمار الجامعات في المعرفة ليس خيارًا، بل ضرورة لضمان مستقبل أفضل للمجتمعات. فهو يساهم في دفع عجلة الابتكار، تحسين فرص العمل، وتعزيز التنمية المستدامة. لذا، تعمل الجامعات دائما على تطوير سياساتها التعليمية والبحثية، لضمان تأثير إيجابي طويل الأمد على الأفراد والمجتمع ككل.
في هذا السياق، تبرز الحاجة الملحّة إلى تعزيز دور الجامعة كجهة فاعلة في إنتاج السياسات العامة المبنية على الأدلة، من خلال تفعيل وحدات قياس الأثر وتوجيه البحث العلمي نحو القضايا المجتمعية ذات الأولوية، مثل تغير المناخ، والصحة العامة، والتحول الرقمي، والتعليم الشامل. فالبحث العلمي لا يكتسب قيمته فقط من نشره الأكاديمي، بل من أثره المجتمعي القابل للقياس، وقدرته على تغيير واقع الناس نحو الأفضل.
كذلك، ينبغي ألا يقتصر دور الجامعة على الإمداد بالمعرفة النظرية، بل يجب أن تتحول إلى منصة حقيقية لريادة الأعمال، من خلال دعم حاضنات الابتكار، وتوفير تمويل أولي للأفكار القابلة للتطبيق، وربط الطلاب والباحثين برواد الأعمال والمستثمرين. فبناء اقتصاد المعرفة يبدأ من المعمل، لكنه لا يكتمل إلا حين يُترجم المنتج المعرفي إلى حلول ملموسة في السوق.
هنا، لا بد أن يتسع مفهوم “استثمار المعرفة” ليشمل أيضًا الاستثمار في الإنسان. ذلك أن الطالب، إذا تم تمكينه من أدوات النقد والتحليل، وإذا ما مُنح فرصة للتفكير الحر والعمل الجماعي وتجاوز التخصصات، فإنه يصبح فاعلًا حقيقيًا في منظومة التطوير، لا مجرد متلقٍ للمعرفة. فبناء العقل النقدي هو أساس كل نهضة، وجوهر كل جامعة تتطلع أن تكون جزءًا من المستقبل لا شاهدةً عليه فقط.
في النهاية، فإن الرهان الحقيقي على الجامعات لا يقتصر على جدرانها أو مناهجها، بل يمتد إلى قدرتها على أن تكون فاعلًا رئيسيًا في بناء مجتمعات المعرفة، وإعادة تعريف العلاقة بين العلم والتنمية. فكل جامعة لا تنغمس في أسئلة المستقبل، ولا تضع نفسها في قلب التحولات الكبرى، تُعرض نفسها للتهميش. أما الجامعة التي تستثمر في العقول، وتربط البحث بالواقع، وتؤمن بأن المعرفة مسؤولية جماعية، فهي التي تُحدث الأثر وتصنع الفرق. إننا لا نُراهن على جامعة تُخرّج موظفًا، بل على جامعة تُحرّك أمة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.