فارس حجازي يكتب | الوقت بين يديك أم ضدك؟

0

 

في حياتنا، كلنا فقراء أمام الوقت. نولد وعلى معصم كل واحد منا ساعة خفية، عقاربها لا تتوقف، وصوت دقاتها لا يرحم. الوقت ليس مالاً فقط كما قالوا، بل هو الحياة نفسها. كل لحظة تهدرها هي جزء من حياتك يتبخر إلى غير رجعة. وإن تأملت جيدًا، ستدرك أن معارك الحياة جميعها تبدأ بمعركة مع الوقت: من ينتصر عليه، انتصر على كل شيء آخر.
إدارة الوقت ليست ترفًا. إنها فن البقاء. حين أتحدث عن إدارة الوقت، لا أُحدثك عن جداول صارمة أو خطط مملة تُشعرك أنك ترقى إلى آلة بلا روح. بل أحدثك عن فن راقٍ، عن معركة نبيلة مع أكبر خصوم الإنسان: التسويف، والتشتت، واللهث وراء لا شيء. الوقت كالريح؛ إن لم تُحكم قبضتك عليه، سيفلت منك ويذهب إلى حيث لا تعلم.
ما الوقت؟ سؤال بسيط وإجابة خطيرة. الوقت ليس مجرد أرقام على ساعة حائطك، وليس ساعات العمل أو الدوام أو المناسبات والمواعيد. الوقت هو حياتك. هو ساعات الحلم، لحظات الحب، دقات القلب، ابتسامة طفل، ضوء غروب… كل ذلك وقت. ولأن الوقت هو الحياة، فإدارتك له ليست خيارًا، بل قدرٌ عليك أن تقبله أو تخسره.
قال الفيلسوف الفرنسي “بول فاليري”: “الوقت هو أكثر ما نستخدمه، وأكثر ما نهدره.” ومع كل دقيقة تمر، هناك خيار: إما أن تكون أنت سيد اللحظة، أو أن تكون اللحظة سيدك.
احترام البداية أمر جوهري. صباحك يحدد بقية يومك. ليس هناك نجاح يبدأ بيوم فوضوي. استيقظ مبكرًا، وضع أهدافك أمام عينيك كأنك تصنع صلاة يومية من أحلامك. اكتب أحلامك وخططك. الكلمات المُسجلة لها سحر لا يعرفه إلا المجربون. كل ما لا يُكتب يتبخر. أمسك بالقلم، وارسم لنفسك طريقًا قبل أن يرسمه لك الآخرون.
لا تؤجل. لا تؤجل. لا تؤجل. كلمة “لاحقًا” هي الحفرة التي نحفرها لأنفسنا بأيدينا. مهما كانت المهمة صغيرة أو بسيطة، أنجزها الآن. عش حياتك وكأن كل دقيقة امتحان. وتعلم أن تقول “لا” ببسالة. ليس كل الطرق تؤدي إلى السعادة، وليس كل الناس يستحقون وقتك. قل “لا” للأحاديث الفارغة، “لا” للمشتتات، “لا” لكل ما لا يخدم حلمك. حافظ على وقتك كمن يحمي درّته الثمينة من اللصوص.
خصص لنفسك ساعة مقدسة. ساعة واحدة يوميًا تعيشها مع ذاتك: قراءة، كتابة، رياضة، تأمل. هذه الساعة لن تصنع يومك فقط، بل ستصنعك أنت من الداخل. وراجع يومك قبل أن تنام. قبل أن تطفئ مصباحك، اسأل نفسك: ماذا أنجزت؟ ماذا ضيّعت؟ ماذا سأعدّل غدًا؟ فالحياة تتشكل من تراكم هذه اللحظات الصغيرة من الصدق مع الذات.
لكن هناك معوقات، لصوصًا غير مرئيين يسرقون وقتك دون أن تنتبه. التسويف هو العدو الأول، وكلما قلتَ “سأفعل لاحقًا”، خسرت. ثم يأتي الإدمان الرقمي: الهاتف، مواقع التواصل، المقاطع القصيرة… كلها قتلة صامتون لعقلك ووقتك. وهناك الخلط بين العاجل والمهم، فكثيرون يغرقون في أعمال طارئة وينسون ما هو أهم: الأعمال التي تصنع المستقبل. ويضاف إلى ذلك ضياع الهدف، فمَن لا يعرف إلى أين يتجه، سيضيع حتمًا مهما كان يمتلك من الساعات.
الوقت لا ينتظر أحدًا. الناجحون لم يُولدوا وفي جيبهم ساعات إضافية، بل عرفوا كيف يصنعون من كل دقيقة عالمًا، ومن كل ساعة مجدًا. فهموا أن إدارة الوقت ليست أن تملأ جدولك، بل أن تملأ حياتك بالمعنى. أنت لست مجرد مدير وقتك، بل أنت مهندس مصيرك.
وتذكر جيدًا: “من يزرع الساعات، يحصد العمر.” فاختر أن تكون أنت سيد وقتك، لا عبده. كن القائد في معركتك مع الزمن، فكل دقيقة تهدرها اليوم، ستدفع ثمنها غدًا، وكل دقيقة تستثمرها اليوم، ستكون الجسر الذي تعبر عليه إلى أحلامك.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.