مؤمن صفوت يكتب | الحرية غير المسؤولة

0

تمر المجتمعات الإنسانية اليوم بتحولات جذرية غير مسبوقة، مدفوعة بتيارات فلسفية ترفع شعار “الحرية‌
المطلقة” كغاية قصوى، دون مراعاة للسياقات الأخلاقية أو الضوابط الاجتماعية أو المصلحة العامة. هذا‌
التصور المطلق للحرية، الذي يختزل الإنسان في فرد منعزل عن سياقه المجتمعي والتاريخي والديني، بدأ يثمر‌
ثمارًا مرة تهدد نسيج المجتمعات وتمس أسس استقرارها وقيمها المتوارثة. فالفردية المتطرفة، تحت مظلة هذه‌
الحرية غير المسؤولة، أفرزت ظواهر تشكل انزياحًا خطيرًا عن الثوابت المجتمعية والأخلاقية.
أبرز تجليات هذا الانزياح ظهور وتطبيع سلوكيات وممارسات كانت تُعد في السابق خارج الإطار المقبول‌
اجتماعيًا ودينيًا، بل وتتعارض مع الفطرة الإنسانية السوية. لقد تحولت قضايا تتعلق بالهوية والعلاقات‌
الإنسانية من شأن خاص إلى مادة للجدال العلني والضغط السياسي، تحت ذريعة “الحقوق الفردية”. هذا لا يعني‌
رفض الاختلاف أو التنوع البشري الطبيعي، بل هو تحذير من محاولات فرض نماذج حياة شاذة – سواء في‌
السلوك أو الفكر – على أنها “البديل الطبيعي” أو “التقدم الحتمي”، مستغلة مفهوم الحرية المشوه لتمرير ما هو‌
غريب عن قيم الأغلبية وثوابتها الأخلاقية والدينية. هذا الترويج المتعمد يخلق حالة من التشتت المعياري، خاصة‌
لدى الأجيال الناشئة، التي تُعرض لقصف مستمر بأفكار تناقض ما تربت عليه في محيطها الأسري‌
والاجتماعي.
وما يزيد الطين بلة هو الارتباط الوثيق بين هذه الحرية المطلقة وموجات الإلحاد المتصاعد. فتحرير الفرد من كل‌
القيود الدينية والأخلاقية، وإعلاء شأن الرغبة الفردية كمرجعية مطلقة، يفتح الباب واسعًا أمام العدمية والرفض‌
المطلق لكل الموروث الديني والقيمي. لم يعد الإلحاد مجرد شك فلسفي شخصي، بل تحول في كثير من الأحيان‌
إلى أيديولوجية عدائية تُروج بنشاط، مستغلة فضاء الحرية المفتوح لتقويض أسس الإيمان في المجتمعات، تحت‌
شعارات زائفة مثل “تحرير العقل” و”التحرر من الخرافة”، متناسية الدور المحوري للقيم الدينية في بناء‌
الضمير الفردي والتماسك الاجتماعي عبر التاريخ.
ولعل أخطر ما تُنتجه هذه الفوضى الأخلاقية المرخصة هي انهيار جدار الخصوصية. ففي عالم يتغنى بالحرية‌
المطلقة، تتحول حياة الأفراد إلى مادة للاستهلاك العلني. قنوات التواصل الاجتماعي، بدعم من فلسفة “الحق في‌
التعبير” دون قيود، أصبحت ساحات لانتهاك حرمة البيوت، ونشر التفاصيل الشخصية، والتشهير، وفرض‌
الآراء الفردية في كل صغيرة وكبيرة. ما يسمى بـ “ثقافة الإلغاء” هي أحد أفظع تجليات هذه الحرية المطلقة‌
المنفلتة، حيث تُسحق خصوصيات الأفراد وآراؤهم تحت عجلة الرأي العام المتعصب الذي يفرض وصايته‌
باسم الحرية ذاتها! إنها مفارقة مأساوية: حرية تدمر نفسها بنفسها.
هذا الواقع يفضح ازدواجية معايير صارخة. ففي الوقت الذي تُفرض فيه قيود صارمة في مجالات عدة‌
(كالاقتصاد والأمن) بحجة المصلحة العامة أو منع الضرر، نجد تساهلاً مريبًا، بل وتشجيعًا أحيانًا، لسلوكيات‌
وممارسات ثبت ضررها البالغ على الصحة النفسية للأفراد (خاصة الشباب) وعلى تماسك الأسرة كوحدة أساسية‌
في المجتمع. يُسمح بنشر أفكار وممارسات هدامة تحت مظلة الحرية الفردية، بينما تواجه الأصوات المحافظة‌
التي تدافع عن القيم المجتمعية والأسرية حملات تشويه وتهميش. أين الميزان؟ وأين مفهوم الحرية المسؤولة الذي‌
يحمي المجتمع ككل وليس فقط أهواء أفراده المتطرفة؟
الحرية الحقيقية ليست انفلاتًا من كل القيم والضوابط. الحرية الحقيقية تنمو في إطار المسؤولية والوعي بالآخر‌
وبالمصلحة الجماعية. إنها الحرية التي تحترم الفطرة السليمة، وتصون الثوابت الأخلاقية التي ارتضتها‌
المجتمعات عبر تراكم خبراتها وتجاربها الدينية والثقافية، وتحترم قدسية الحياة الخاصة وعدم انتهاك حرمات‌
الناس. إن تجاهل هذه الضوابط تحت شعارات براقة يؤدي حتمًا إلى مجتمع ضعيف، مشتت الهوية، تسوده‌

الفوضى الأخلاقية، وتنتشر فيه النزعات الفردية الأنانية على حساب التضامن والقيم الجميلة التي بنت‌
الحضارات. الخطر ليس في الاختلاف الفردي، بل في تحويل الشذوذ عن المألوف الصحي والثوابت المجتمعية‌
إلى معيار جديد يُفرض على الجميع باسم حرية هي في جوهرها طغيان جديد. إن استعادة التوازن بين حرية‌
الفرد ومسؤوليته تجاه مجتمعه وقيمه ليست رفاهية، بل ضرورة وجودية لضمان استمرار مجتمعاتنا متماسكة‌
وقوية في مواجهة رياح الفوضى العاتية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.