د.نور الشيخ يكتب | التنميط المجتمعي (2_2)
لازلنا مع موضوع التنميط المجتمعي.
أولا: النمط المعماري
العمران من السمات الأساسية للتجمعات البشرية، ويعكس ثقافة المجتمع أو أفراده، و تتنوع أنماط السكن بحسب الفترات الزمنية والمناطق، وتأثرها بتكنولوجيا الاتصالات والعولمة، فلكل منطقة سماتها العمرانية الخاصة، التي تعكس تاريخها ومناخها وحالتها الاقتصادية.
في إنجلترا وأيرلندا واسكتلندا ودول أوروبا القديمة، نجد أنماطًا معمارية شبه ثابتة، تعزز الانتماء للهوية الخاصة بكل دولة، وتتلاءم مع الأجواء المناخية والتوزيع السكاني، والمحكومة بقوانين صارمة لمساحات وأشكال وألوان البناء،حتى في الأحياء الحديثة، هناك تقنين صارم يمنع العشوائية، لأن النمط المعماري ليس شكلاً جماليًا فقط، بل محصلة التاريخ والمناخ والحالة الاقتصادية، ودرجة الثبات المجتمعي.
في دول ذات مساحة شاسعة مثل سنغافورة والصين والولايات المتحدة، توجد عدة أنماط متفاوتة، لكن وفق تنميط محدد يمنع العشوائية. فالنمط المعماري يهدف إلى تحقيق المصلحة العامة، حتى وإن كان هناك سلوك شاذ أو صعب السيطرة، فهو تحت رقابة نسبية لا تعيق التقدم.
ثانيا: النمط المروري
النمط المروري هو ثاني أهم نمط عالمي قادر على توجيه سلوك المواطنين، فالطرق العامة هي أول مساحة مشتركة تجمع بين أشخاص لا علاقة بينهم، إذا تركت الحكومات شعوبها للتعاون وفق أهوائها الشخصية، سيكون الوضع أكثر تعقيدًا لذلك، تنظم هذه المساحة المشتركة بأنماط صارمة، تُطبق بغض النظر عن ظروف الزحام أو الهدوء، أو نوع الطريق، أو وجود إشارات، أو نوع النقل، أو عبور المشاة، الهدف هو تحقيق المصلحة العامة، التي تساعد الدولة على المضي قدمًا دون مفاجآت سلبية، من أجل صحة نفسية أفضل وإنتاجية أعلى.
ثالثا: نمط الاستهلاك
النمط الاستهلاكي في أوروبا وأمريكا مختلف عن بقية الشعوب، رغم أنهم الأعلى دخلًا، الأنظمة هناك ترى أن ثقافة الاستهلاك يجب أن تحكمها قواعد صارمة، تحاصر الرغبات بشكل ممنهج للحفاظ على قيمة الادخار والاستثمار والترشيد.
فالاستهلاك المفرط يؤدي إلى تغييرات في غرائز وفضائل أخرى قد تدمر باقي الأنماط التي تحفز العمل والانتماء،الشعوب الأوروبية والأمريكية، رغم قوتها الشرائية، فإن قدراتها مراقبة ومرشدة، غير مُحفزة بسبب قلة الإعلانات التجارية المستفزة وطول مواعيد فتح المحال.
فالنمط هنا هو تحجيم مواعيد عمل المحال التجارية وتحجيم غرائز الشراء، واعلاء قيمة التدبير والادخار مع وجود متنفس يسمح بانفجار الضغط بشكل ممنهج.
رابعا: النمط القانوني
القانون هو الإطار الذي ينظم الحياة الطبيعية والاجتماعية. الهدف هو توفير الأمن والنظام من خلال تحقيق توازن بين حقوق الأفراد وواجباتهم، الاستقرار القانوني يعني أن تكون الأنشطة البشرية واضحة وفعالة، غير معرضة للاضطراب.
والاستقرار القانوني يعني أن تكون الأنشطة البشرية واضحة وفعالة وغير معرضة للاضطراب والمفاجآت، وهذا لا يعني جمود القانون وعدم مواكبته للتطورات، إذ يعبر القانون عن حاجات المجتمع، والجمود أحيانًا هو من مظاهر عدم الاستقرار القانوني.
ويعد الاستقرار القانوني جزءًا أساسيًا من ضمانات العدالة واحترام القانون. ويتسم النمط القانوني في إدارة المجتمعات بمحاور عدة، منها الاستقرار، وعدم الجمود، والعدالة، والحماية، والثقافة القانونية للجميع. وبالتالي، فإن الدولة ذات النمط القانوني تحكم توجهات وحركات الأفراد والمجموعات لتجنب الانحرافات التي قد تعطل الإنتاجية أو تؤثر على السلام المجتمعي.
هناك مجتمعات تفتقر إلى القانون، حيث تنتشر الجريمة ويغيب العدل، ويشعر المواطن فيها بالغربة داخل وطنه، مثل فنزويلا وكمبوديا وبوليفيا، وعلى العكس، نجد الدول الأكثر التزامًا بالقانون مثل الدنمارك والنرويج وفنلندا والسويد وألمانيا والمملكة المتحدة.
وأكرر، لا توجد المدينة الفاضلة، ولكن هناك دائمًا مدينة تحاول تدارك السلبيات بشكل ممنهج، كي لا تؤثر على المسيرة الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي على الاستقرار النسبي للمجتمع عبر العصور.
ويتميز النمط القانوني بأن قواعده السلوكية تحكم السلوك الخارجي للإنسان، فهي لا تعير اهتمامًا للنوايا أو المشاعر طالما لم تتحول إلى فعل خارجي، كما تحمي الحقوق الفردية، إذ يمنح القانون الفرد وسائل للدفاع إذا اعتُدي على حقه.
خامسا: النمط الإعلامي والإعلاني
الإعلام والإعلان وجهان لعملة واحدة. في الدول ذات النمط الصارم، تحكم القوانين والحدود عمل الإعلانات، فلا تحفز على الشراهة الاستهلاكية أو البذخ أو العنف أو الخروج عن القوانين. الهدف هو توجيه الجماهير نحو ما يتوافق مع النمط المجتمعي.
سادسا: العولمة والنمط
العولمة تعني ولادة كرة أرضية واحدة، لكنها في الواقع أداة لهيمنة الحضارات الكبرى على العالم. تعمل العولمة الثقافية على الترويج للأيديولوجيات الغربية وفرضها على الواقع، مستخدمة الضغوط السياسية والإعلامية والاقتصادية. يرى المفكر الألماني أولريش بك أن العولمة تعني انهيار وحدة الدولة الوطنية، بينما يرى الدكتور محمد عابد الجابري أنها عملية أيديولوجية تهدف إلى السيطرة على الإدراك وإخضاع النفوس. أصبحت العولمة أداة لتفتيت النمط الإيجابي لأي دولة، حيث تسعى إلى تحطيم الأنماط المميزة القائمة على الهوية والثقافة.
سابعا: النمط في الحرب الناعمة
الحرب الناعمة ليست استخدام السلاح المباشر، بل حرب تحكمها استراتيجيات معقدة تؤثر على الأنماط الاجتماعية والثقافية والقيمية، تهدف إلى تدمير القيم المجتمعية وتقويض الهوية وزرع الفتن، تحتاج الدول في مواجهتها إلى وعي عالي وحكامة رشيدة تضع النمط الوطني كخط دفاع أول، عبر تدعيم القيم والأعراف وتعزيز الهوية الوطنية.
الخاتمة: الفوضى واللا انتماء
عندما يغيب النمط عن المجتمع، تتكاثر داخله كياناتمعنوية وافتراضية فرعية متناحرة تحل محل الهوية ، لا تجمعها انتماء لأرض أو هوية، فتصبح الفوضى هي الواقع، واللا انتماء هو القاعدة الجديدة، و الفرد يظل بحاجة إلى التوجيه والترويض طيلة حياته، وغياب الترويض يفتح له أبواب الفوضى.
في ظل وجود النمط، تتحقق الحرية الحقيقية ويتجلى التنظيم في أبهى صوره، فالنمط يولد الانتماء ويحافظ عليه، لأنه حين يكون إيجابيًا وصحيح الاتجاه يجد صداه لدى من يؤمنون به.
أما عشاق الفوضى والمنفصلون عن الانتماء، فهم متطفلون على حياة الآخرين، ناقمون على كل ما يحيط بهم.
عندما تفتقر المجتمعات إلى النمط وتغرق في العشوائية، تصبح لقمة سائغة للمخاطر الخارجية، هدفًا سهلًا للاختراق والتفكيك. الهجوم على النمط وتدميره يؤدي إلى مجتمع مفكك، عاجز عن التماسك أو التقدم. لذلك، فإن الحفاظ على النمط هو ضمان للاستقرار والتقدم.