حازم عيسي يكتب | مواجهة الفساد المجتمعي

0

لا يمكن الحديث عن مسارات التنمية أو محاولات الإصلاح في مصر دون مواجهة صريحة مع واحد من أكثر التحديات تعقيدًا وتأثيرًا على حاضر البلاد ومستقبلها: الفساد المجتمعي. فبينما تتركز الأضواء غالبًا على الفساد الإداري والمالي، يتسلل الفساد الأخطر بين الناس، يختبئ في التفاصيل اليومية، ويتجذر في الوعي العام حتى بات جزءًا من الثقافة السائدة.

الفساد المجتمعي لا يعني فقط الرشوة أو المحسوبية، بل يشمل أشكالاً متعددة من الانحراف السلوكي، كتفضيل العلاقات على الكفاءة، وتبرير الغش في الامتحانات، واعتبار “الواسطة” أداة مشروعة لتحقيق الحقوق، بل أحيانًا ما يتعدى ذلك ليصبح آلية للهيمنة الاجتماعية.

في هذا السياق، تشير دراسة حديثة صادرة عن “المركز المصري للدراسات الاجتماعية” إلى أن 71% من العينة المستطلعة ترى أن “الواسطة” أصبحت أمرًا طبيعيًا في المجتمع، بينما أعرب 54% عن فقدانهم الثقة في أن النجاح يعتمد على الجهد الشخصي وحده. هذه الأرقام كفيلة بتوضيح حجم الأزمة الأخلاقية والهيكلية التي نواجهها.

وبما أن الأرقام لا تكذب ووفقًا لتقرير الشفافية الدولية لعام 2024، فإن مؤشرات الثقة في المؤسسات العامة بمصر تراجعت لدى شريحة واسعة من الشباب بنسبة 37%، ويرجع ذلك بالأساس إلى شعورهم بأن الجهد وحده لا يكفي لتحقيق النجاح، وأن هناك معايير غير موضوعية في التوظيف والترقي.

كما كشف تقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (CAPMAS) أن 58% من المواطنين يعتقدون أن “العلاقات” أكثر فاعلية من “القانون” في إنهاء المعاملات.

فالفساد الصامت وتأثيره المزدوج لا يقتصرعلى تأثير الفساد المجتمعي فقط بل على تعطيل العدالة الاجتماعية، بل يمتد إلى تقويض الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة. فعندما يُقصى الكفء ويُكافأ غير المستحق، تُقتل روح المنافسة وتُغتال الأحلام. يتسلل الإحباط إلى نفوس الشباب، ويبدأ البعض في البحث عن طرق ملتوية للوصول، ويشيع بين العامة أن النجاح لا يأتي إلا بـ”المعارف” أو “الرشاوى”.

فلا نغفل بأن الإصلاح يبدأ من المجتمع ورغم الجهود التشريعية الكبيرة التي اتخذتها الدولة، ومنها تفعيل الأجهزة الرقابية، والتحول الرقمي لتقليل التلامس البشري، إلا أن غياب إصلاح مجتمعي يوازي هذا الحراك قد يجعل النتائج محدودة. فالقوانين الصارمة لا تُجدي نفعًا إذا قابلها وعي جماهيري يتسامح مع التجاوز، أو حتى يشجعه ضمنيًا.

وأيضا دور التعليم والإعلام والمجتمع المدني يلعب التعليم دورًا محوريًا في تشكيل السلوكيات. المدرسة يجب ألا تكون مكانًا للتلقين، بل فضاء لترسيخ مفاهيم النزاهة والمساواة والعدالة. كما أن الإعلام، كأداة للتأثير الجمعي، عليه دور في تصحيح المفاهيم الخاطئة، والكشف عن قصص النزاهة لا فقط قصص الفساد.

أما منظمات المجتمع المدني، فبإمكانها القيام بدور توعوي قوي، عبر حملات تُعيد الاعتبار للمبادئ وتُسلّط الضوء على النماذج الإيجابية، بدلًا من تعميم الفشل والانكسار.

ومن خلال تجارب مجتمعية إيجابية ، شهدت بعض القرى المصرية، خاصة في صعيد مصر، مبادرات أهلية لمحاربة الفساد المحلي من خلال لجان مجتمعية للرقابة، أو عبر مؤسسات شبابية تتعاون مع المجالس المحلية. هذه النماذج تؤكد أن التغيير ممكن عندما ينبع من الداخل، ويُبنى على الثقة، وليس فقط على الإجراءات.

لابد أن نذكر دور المؤسسات الرقابية وما تبذله من جهدًا كبيرًا، ومبادرات التحول الرقمي تسهم في تقليل فرص التلاعب، لكن كل ذلك يظل دون أثر ملموس ما لم تتغير الثقافة العامة التي تتسامح مع الفساد الصغير، وتُجمله أحيانًا تحت مسمى “تسهيل الأمور”.

ونكرر ايضا التعليم، والإعلام، والمجتمع المدني، أدوات أساسية في تشكيل الوعي. لكن المطلوب اليوم ليس فقط نشر أخلاقيات النزاهة، بل أيضًا إحياء قيم الانتماء التي تربط بين مصلحة الفرد ومصلحة الوطن. لن يُجدي أن نُصلح القوانين ونترك الوعي يتآكل.

الحل لا يكمن في الردع وحده، بل في بناء ثقافة مجتمعية تعتبر النزاهة جزءًا من الهوية. وبدون ذلك، ستظل كل خطط التنمية مجرد عناوين طموحة يلتهمها الواقع.

إذنً فالفساد المجتمعي هو العدو الخفي للتنمية، وإذا لم نواجهه بسلاح الوعي والتعليم والإرادة، فستظل كل سياسات الإصلاح حبيسة الأوراق. ما نحتاجه اليوم ليس فقط حكومة تحارب الفساد، بل مجتمع لا يقبله

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.