يمثل الإعلام العصب الحيوي للمجتمع، وأداة فعالة لتشكيل الرأي العام وبناء الوعي المجتمعي. ومع التطور التكنولوجي المتسارع، شهدت الصحافة نقلة نوعية مع دخول الرقمنة كعنصر محوري في صناعة الأخبار والمعلومات، لتصبح الصحافة الرقمية لاعبًا أساسيًا في المشهد الإعلامي الحديث، لا يكتفي بنقل الحدث بل يعيد صياغته وتحليله في ضوء أدوات العصر.
في مصر، تمتد جذور الصحافة إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر، حين أطلق محمد علي باشا أول جريدة رسمية في البلاد، وهي “الوقائع المصرية” عام 1828. ومنذ ذلك الحين، تطورت الصحافة المصرية لتشمل صحفًا مستقلة وحزبية لعبت دورًا مهمًا في توثيق وتحليل التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية، وكانت مرآة حقيقية للمجتمع في لحظاته الفارقة.
ومع دخول العصر الرقمي، بدأت الصحافة المصرية في التحول إلى النشر الإلكتروني، ما أتاح وصول الأخبار إلى جمهور أوسع في وقت قياسي. ووفقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، بلغ عدد مستخدمي الإنترنت في مصر أكثر من 80 مليون مستخدم حتى عام 2023، مما يعكس اتساع قاعدة الجمهور الرقمي. كما أصبحت منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، تويتر (X حاليًا)، وإنستجرام وغيرها ، أدوات رئيسية لنشر الأخبار والتفاعل مع الجمهور، مما عزز من مرونة التواصل وسرعة الانتشار.
لم تعد الصحافة مجرد ناقل للحدث، بل تحولت إلى أداة تحليل وربط بين المعلومة والجمهور، مدفوعة باستخدام أدوات تكنولوجية حديثة مثل الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات. هذه الأدوات تتيح تقديم محتوى دقيق وشامل، وتحقق مستويات غير مسبوقة من السرعة والدقة. وقد أثبتت صحيفة “واشنطن بوست” عالميًا أن استخدام الذكاء الاصطناعي في صياغة الأخبار القصيرة عزز إنتاجيتها بنسبة تجاوزت 30%، بينما بدأت بعض المؤسسات الإعلامية المصرية في تطوير منصات تفاعلية تعتمد على تحليل سلوك الجمهور لتقديم محتوى أكثر دقة وملاءمة.
ورغم هذه التحولات الإيجابية، تواجه الصحافة الرقمية تحديات ملحوظة، أبرزها:
– صحافة النسخ واللصق أو ما يطلق عليه (صحافة الكوبى بست): حيث تكتفي بعض المؤسسات بنقل الأخبار من المصادر الرسمية دون تقديم تحليل أو رؤية مميزة.
– انتشار الأخبار الكاذبة: مع سهولة النشر، تزايد خطر المعلومات المغلوطة التي تهدد الثقة في الإعلام.
– المنافسة الشرسة: تنوع المنصات الرقمية جعل جذب انتباه الجمهور أكثر صعوبة وتعقيدًا.
– التحديات الاقتصادية: مثل انخفاض عائدات الإعلانات الورقية، وصعوبة التمويل للمواقع المستقلة، مما يؤثر على استدامة المحتوى الجيد.
ولمواجهة هذه التحديات، يتعين على الصحفيين تبني الابتكار في صياغة الأخبار، وتقديم سياقات جديدة تضيف قيمة معرفية، إلى جانب استخدام الأدوات الرقمية بحكمة، مثل الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات واكتشاف الأنماط، وتعزيز التحقق من المصادر لضمان المصداقية. كما أن الالتزام بأخلاقيات الصحافة الرقمية، مثل احترام الخصوصية وعدم الوقوع في فخ الإثارة الزائفة، أصبح ضرورة لا غنى عنها.
ويقول أحد كبار الصحفيين المصريين: “الصحافة الرقمية ليست مجرد تطور تقني، بل هي إعادة تعريف لدور الصحفي في المجتمع، حيث تصبح المعلومة مسؤولية، والتحليل قيمة مضافة.”
في المستقبل، من المتوقع أن تعتمد الصحافة بشكل أكبر على تقنيات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء، مما يمنح الصحفي أدوات أكثر دقة وعمقًا في التغطية. كما أن التحول نحو نموذج “الصحافة التعاونية”، الذي يتيح للجمهور المشاركة في جمع البيانات والمعلومات، قد يعيد تشكيل معايير الصحافة التقليدية ويمنحها طابعًا أكثر تفاعلية وشفافية.
إن الإعلام الرقمي يمثل فرصة ذهبية للنهوض بصناعة الصحافة، لكنه يتطلب من الصحفيين الالتزام بالإبداع والمسؤولية المهنية، لضمان استخدام هذه الأدوات بفعالية. فالصحافة ليست مجرد نقل للأخبار، بل هي فن تقديم المعلومة بشكل يخدم الجمهور ويوسّع مداركه، ويبقى الصحفي هو الركيزة الأساسية لهذه الرسالة النبيلة.