ليست الجامعات مجرد قاعات للتدريس أو أبراجٍ عاجية يعلو فيها صوت النخبة بعيدًا عن ضجيج الحياة اليومية، بل هي اليوم منصات استراتيجية لتبادل الأفكار وصناعة المستقبل. من هنا، فإن الإعلان عن إنشاء كلية بنها ووهان للدراسات العليا بجامعة بنها، بموافقة مجلس الوزراء المصري، يتجاوز حدود كونه خبرًا أكاديميًا إلى كونه حدثًا دبلوماسيًا بامتياز، يضع مصر في قلب معادلة جديدة من التعاون الدولي
هذه الكلية المشتركة بين جامعة بنها وجامعة ووهان الصينية تحمل بين جدرانها أكثر من مجرد محاضرات وبحوث، فهي تجسد عمق العلاقات المصرية الصينية، وتحوّلها من لغة المصالح الاقتصادية والتجارية إلى لغة أعمق: لغة المعرفة.
إن تأسيس هذا الكيان المشترك يعكس رؤية طموحة بأن التعاون الأكاديمي قد يكون أحيانًا أبلغ من أي بيان سياسي، وأشد تأثيرًا من أي اتفاق اقتصادي، لأنه يزرع بذورًا تمتد في العقول والأفكار والأجيال
وحين تمتد جسور المعرفة بين حضارتين بقيمة مصر والصين، يكون الحديث عن هذه الخطوة يحمل بين طياته أكثر من مجرد مشروع أكاديمي. حيث أن إنشاء كلية بنها ووهان للدراسات العليا، بمقر جامعة بنها بمدينة العبور، يجسد عمق العلاقات المصرية الصينية، ويرتقي بها إلى مستوى جديد يجعل من التعليم والبحث العلمي لغة مشتركة، ورسالة دبلوماسية ناعمة تتجاوز حدود الاتفاقيات التقليدية.
الكلية الجديدة تمثل شراكة نوعية تمنح الطلاب المصريين والوافدين درجات علمية مزدوجة من مصر والصين، في تخصصات تمثل قلب احتياجات العصر تضم الماجستير المهني في إدارة الأعمال الدولية، والماجستير الأكاديمي ودكتوراه الفلسفة في الاستشعار عن بعد، وبرامج الماجستير والدكتوراه في التمريض بتخصصاته المختلفة.
إننا في زمن تتغير فيه موازين القوة العالمية لذلك فإن العلم يصبح له دورًا جديدًا بوصفه جسرًا للتواصل بين الحضارات. ومن خلال هذه الكلية، تضع مصر نفسها طرفًا فاعلًا في معادلة التعاون الدولي، مؤكدة أنها ليست مجرد متلقٍ للمعرفة، بل شريك حقيقي في إنتاجها حيث يعكس هذا المشروع إدراكًا عميقًا بأن المستقبل لا يُبنى إلا على جسورٍ من البحث العلمي المشترك، وأن العقول الباحثة قادرة على صياغة لغة عالمية تتجاوز الحدود والاختلافات
وإذا كانت الصين قد صعدت كقوة علمية وتكنولوجية كبرى، فإن مصر بجامعاتها العريقة وتاريخها الممتد في إنتاج المعرفة، تقدم هنا نموذجًا للتلاقي الحضاري؛ تلاقي لا يقوم على استنساخ التجارب، بل على التكامل وتبادل الخبرات. الكلية الجديدة إذن ليست فقط جسرًا بين القاهرة وووهان، بل جسرًا بين حضارتين عريقتين تلتقيان على أرض البحث العلمي
لذلك فإنني أرز أن هذا التعاون يبعث رسالة للعالم أن مصر تسعى بوعي إلى تعزيز مكانتها في مشهد التعليم العالي الإقليمي والدولي. فهي تدرك أن التنافس اليوم لم يعد محصورًا في الاقتصادات أو السياسات وحدها، بل بات في القدرة على تخريج أجيال تمتلك أدوات الابتكار والمعرفة، أجيال قادرة على أن تكتب حضورها في عالم لا يعترف إلا بالمتميزين
بهذه الخطوة، لا تبني مصر جسرًا مع الصين فحسب، بل تعلن عن نفسها كعاصمة للتلاقي الأكاديمي في المنطقة، وأن مصر قادرة على أن تحجز لنفسها مكانًا على الطاولة العالمية، وأن تقدم نموذجًا للتعاون الدولي يقوم على الاحترام المتبادل، والإيمان بأن المستقبل يصنعه العقل قبل أي شيء آخر