في مواجهة
الملوك الخالدين حيث الأهرامات العظيمة ، شُيّد المتحف المصري الكبير ليكون الجسر
الذي يربط بين عبقرية الماضي وإبداع الحاضر وطموح المستقبل. إنه ليس مجرد متحف
يعرض الآثار، بل مدينة حضارية متكاملة تفتح للعالم نافذة على روح مصر القديمة،
وتؤكد أن الحضارة المصرية لا تزال حية ومتجددة في قلوب المصريين وعقولهم.
جاءت رؤية
القيادة السياسية واضحة: أن يكون المتحف المصري الكبير واجهةً حضارية تُبهر
العالم، وأن يعكس حفل افتتاحه صورة مصر الجديدة، الدولة القوية التي تحافظ على
إرثها العظيم وتقدّمه للعالم برؤيةٍ عصرية. ومن هنا، سيشهد العالم بأسره حدثًا غير
مسبوق يجمع بين الفن، والتكنولوجيا، والرموز التاريخية، في مشهدٍ يُخلّد عظمة هذا
الوطن.
وُلدت فكرة
المتحف الكبير، حين أدركت الدولة المصرية أن متحف التحرير – الذي كان ولا يزال أحد
أقدم المتاحف في العالم – لم يعد قادرًا على استيعاب الكنوز الأثرية التي تمثل
ذاكرة مصر الممتدة لآلاف السنين، فقد تكدست المخازن والمواقع الأثرية بكنوز لا
تُقدر بثمن، تحتاج إلى عرض يليق بها وإلى بيئة علمية للحفظ والترميم والتعليم، ومن
هنا انطلقت الرؤية، بإنشاء متحف ضخم يليق بعظمة الفراعنة، ويواكب أحدث مفاهيم
العرض المتحفي في العالم، ويقدم تجربة معرفية وإنسانية تمس القلب والعقل معًا.
المتحف المصرى
الكبير يقدم رؤية معمارية استثنائية تتراوح بين الحداثة والهوية المصرية الأصيلة. التصميم
الهرمي المائل قليلًا، والواجهة الحجرية المستوحاة من صخور الجيزة، والإضاءة
الطبيعية التي تتسلل عبر فتحات هندسية دقيقة، كلها عناصر تمنح الزائر إحساسًا
مهيبًا، وكأنه يدخل معبدًا فرعونيًا يعبر من خلاله إلى أعماق الزمن، ومن البهو
الكبير يمتد درج الملوك والملكات، حيث تصطف مجموعة من الآثار الملكية وغير الملكية
في مشهد يروي سيرة مصر عبر آلاف السنين .
فالمتحف لا يقتصر على حفظ كنوز الفراعنة، التي يزيد عددها على
مئة ألف قطعةٍ أثرية، بل يتجاوز ذلك ليكون قوةً ناعمةً لمصر تعزّز حضورها الثقافي والسياحي
والاقتصادي، ومن المتوقع أن يُحدث نقلةً نوعية في السياحة المصرية، وأن يُحوّل
منطقة الجيزة إلى مركز جذبٍ عالميٍّ متكامل، يُسهم في خلق فرص عملٍ جديدة، وتنشيط
الاستثمارات، وتطوير البنية التحتية المحيطة به.
صُمّم العرض
المتحفي وفق تسلسل زمني يأخذ الزائر في رحلة عبر التاريخ المصري منذ فجر الإنسانية
وحتى نهاية العصور القديمة، فكل قاعة تمثل فصلًا من كتاب الحضارة المصرية منذ عصور
ما قبل التاريخ والتي تحكي عن البدايات الأولى للحياة على ضفاف النيل، والدولة
القديمة التي تمجد عبقرية بناة الأهرام وعصر المعجزات الهندسية، والدولة الوسطى
والدولة الحديثة اللتين تعرضان روائع الفن في فترتين من الفترات الذهبية في تاريخ مصر
القديمة، والعصر المتأخر، والعصر البطلمي والعصر الروماني، كي نوضّح إلى العالم
أجمع كيف ظلت مصر منارة للعلم والفكر إلى نهاية العصور القديمة.
ويمتد المتحف
على مساحة تبلغ نصف مليون متر مربع، منها أكثر من مائة ألف متر مربع للعرض
المتحفي، ليضم ما يزيد على مائة ألف قطعة أثرية تمثل مختلف مراحل التاريخ المصري، وفي
مدخله المهيب يقف تمثال رمسيس الثاني، الذي أُعيد إلى عرشه في رحلة مهيبة من ميدان
رمسيس إلى موضعه الجديد، في لحظة تاريخية تابعها المصريون والعالم بفرح وفخر.
وفي قلب
المتحف، تتلألأ نجمة المعرض الكبرى وهي مجموعة توت عنخ آمون، الفرعون الذهبي الذي
خطف أنظار الدنيا منذ اكتشاف مقبرته عام 1922 ، تُعرض مجموعة الملك كاملة – أكثر
من خمسة آلاف قطعة أثرية – في قاعات عرض حديثة صُمّمت لتُحاكي جمال المقبرة
الأصلية. سوف يشاهد الزائر القناع الذهبي الأسطوري والعربات الحربية والأسلحة
والأثاث والمجوهرات والأواني والعطور والتمائم، وكل ما كان يرافق الملك في رحلته
إلى العالم الآخر. ليست مجرد قطع أثرية، بل حياة كاملة تعاد روايتها.
ويعد المتحف
المصري الكبير مركزًا عالميًا للبحث والترميم والتعليم، حيث يضم داخله أكبر مركز
ترميم في الشرق الأوسط، مجهزًا بأحدث الأجهزة والمعامل المتخصصة، ويعمل به مئات الخبراء
المصريين الذين أصبحوا اليوم من أبرز علماء الترميم في العالم. في هذا المركز
تُنقذ التحف النادرة من التلف وتُستعاد إلى مجدها القديم، وتُجرى أبحاث علمية
دقيقة في الكيمياء والفيزياء الحيوية وعلوم الحفظ، كما يستقبل المركز بعثات علمية
من مختلف الدول، ليتحوّل المتحف إلى جامعة عالمية للآثار المصرية.
تُستخدم أحدث
تقنيات العرض والإضاءة التفاعلية والواقع المعزز، ما يجعل الزائر يعيش تجربة فريدة
تُخاطب الحواس الخمس، فيشعر أنه يسير بين الأجداد أنفسهم.ولا يقتصر المتحف على دوره الثقافي، بل يمثل مشروعًا
اقتصاديًا واستثماريًا ضخمًا يعيد رسم خريطة السياحة في القاهرة الكبرى، فمن
المتوقع أن يستقبل المتحف بعد افتتاحه الكامل ثمانية ملايين زائر سنويًا، ليصبح
أحد أهم مصادر الدخل السياحي في مصر، كما أنه يدعم الصناعات الثقافية والإبداعية
ويخلق فرص عمل جديدة للشباب في مجالات الترميم والتصميم والإدارة والسياحة.
إن افتتاح
المتحف المصري الكبير ليس حدثًا مصريًا فحسب، بل رسالة إنسانية إلى العالم تؤكد أن
مصر ، ما زالت منارة للحضارة والسلام.
وقد حظي
المتحف المصري الكبير بدعم فني ومعنوي من منظمة اليونسكو، التي أشادت به بوصفه
إنجازًا ثقافيًا عالميًا يُسهم في حماية التراث الإنساني ونشر الوعي الحضاري بين
شعوب العالم، واعتبره البنك الدولي أهم المشروعات الثقافية الحديثة في القرن
الحادي والعشرين.
ختامًا، لقد
أثبتت الدولة المصرية، عبر هذا المشروع، أنها قادرة على تحويل الحلم إلى واقع،
وأنها تسير بخطى واثقة نحو مستقبلٍ يليق بتاريخها، ومن خلال التعاون الدولي والدعم
الفني والتقني من كبرى الجهات العالمية، استطاعت مصر أن تُقدّم نموذجًا يُحتذى به
في إدارة المشروعات الثقافية العملاقة. فكما بنى الأجداد الأهرامات لتتحدى الزمن،
تبني مصر اليوم في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي المتحف المصري الكبير ليكون معجزة
معمارية وثقافية تُخلّد عبر التاريخ