د.وليد عتلم يكتب | المتحف.. هوية ورؤية
في كتابه “فجر الضمير” ترجمة العالم المصري الكبير سليم حسن، يقول
جيمس هنري برستيد ” إن هؤلاء المصريين الذين عاشوا في عصر ما قبل
التاريخ المدفونين في أقدم الجبانات، هم وأجدادهم كانوا أقدم مجتمع
عظيم على الأرض استطاع أن يضمن لنفسه غذاء ثابتًا باستئناس الموارد
البرية من نبات وحيوان، على حين أن تغلُّبهم على المعادن فيما بعد
وتقدُّمهم في اختراع أقدم نظام كتابي، قد جعل في أيديهم السيطرة على
طريق التقدم الطويل نحو الحضارة”.
ذلك المؤلف الموسوعي الذي وضعه برستيد عام 1934 لا يُعتبر مجرد
دراسة أكاديمية حول التاريخ والحضارة المصرية القديمة، بل وثيقة
حضارية تؤكد أن مصر كانت منبع النور الإنساني ومهد الحضارة الأولى في
التاريخ. اليوم تحتفل مصر ومعها العالم بتجديد حضارة القدماء المجيدة
بافتتاح المتحف المصري الكبير، تعيد مصر تعريف العالم بهويتها الحضارية،
وتاريخها العظيم كأقدم الحضارات التي عرفتها الإنسانية وأعظمها.
والمتحف لا يختصر في كونه دار لعرض الآثار القديمة أو مجرد مشروع
ثقافي جديد، لكنه رمز ورسالة؛ رسالة حضارية للعالم أجمع، رسالة تحمل
عبق الماضي بروح الجمهورية الجديدة، مصر تظهر هويتها الحضارية بروح
عصرية، وليس أفضل من عظمة الماضي لتجسد إنجازات الحاضر.
وهو رمز لعملية تحول كبيرة وشاملة شهدتها الدولة المصرية على مدار
خمسة عشر عاماً متصلة من العمل والإنجاز، والمتحف رمز ودليل ايضا على
كيفية استغلال مصر الرشيد لثرواتها التاريخية، وحشد وتعبئة جهودها
وعقولها من أجل المستقبل، حيث حولت القدرة المصرية التراث إلى مصدر
قوة ناعمة وجاذبية سياحية وثقافية واقتصادية ليكون المتحف جسراً ما
بين الماضي والحاضر والمستقبل.
ولما كان الاستمرارية والتفرد والأبداع من بين أهم سمات الحضارة المصرية
القديمة، فها هم الأبناء اليوم يواصلون ما بدأه الأجداد الأوائل من تفرد
وإبداع، بناءً وإنجازًا، ليكتمل مجد الأمس في حاضر الوطن ومستقبله. وأن
ما بدأه الأجداد بالأمس من بناءٍ وحضارة، يواصل الأبناء اليوم إتمامه،
ليكتبوا فصول الريادة الجديدة لمصر الجمهورية الجديدة.
نعيد اليوم عبر المتحف المصري الكبير تأطير الحضارة المصرية القديمة
لنقدمها من جديد بالعلم والتطوير والتعمير، هدية للعالم الذي لا يزال
متعطشا لسحر حضارة لم ولن يخفت بريقه عبر الاف السنين. والمتحف
يوثق لحاضر مصر الشامخ، كما يؤرخ لماضيها المجيد. ونستكمل ما بدء من
ابهار حضاري وابداع ثقافي مع موكب المومياوات الملكية، ثم افتتاح طريق
الكباش بالأقصر.
علينا جميعا أن نفخر بما تحقق من إنجاز في المتحف المصري الكبير؛ هذا
الأثر تفتح معه مصر صفحة جديدة من التاريخ، ومن التقدم والازدهار أيضا،
يعيد لمصر ريادتها السياحية والثقافية المستندة على ركائز تاريخ طويل من
الحضارة لا يزال شاخصا حتى اليوم. وكما ذهب الفيلسوف الجزائري مالك
بن نبي في كتابه “شروط الحضارة” فإن “الحضارة لا يمكن استيرادها من
بلد إلى آخر رغم استيراد كل منتجاتها ومصنوعاتها. لأن الحضارة إبداع ,
وليست تقليدا أو استسلاما وتبعية كما يظن الذين يكتفون باستيراد الأشياء
التي أنتجتها حضارات أخرى. فبعض القيم لا تباع ولا تشترى، ولا تكون في
حوزة من يتمتع بها كثمرة جهد متواصل أو هبه تهبها السماء، كما يهب الخلد
للأرواح الطاهرة، ويضع الخير في قلوب الأبرار”. وهكذا مصر تقدم للعالم
دليلا دامغا جديدا على عمق حضارة مصر الضاربة في جذور التاريخ