شيماء محسب تكتب | البرلمان بين الوعي والخبرة

0

تشكل انتخابات مجلس النواب لحظة فارقة في مسار الحياة السياسية المصرية، فهي ليست مجرد منافسة على المقاعد، بل اختبار حقيقي لمدى نضج المجتمع السياسي ووعيه في اختيار من يمثل صوته داخل المؤسسة التشريعية الأهم في الدولة. وبين تنوع المرشحين واختلاف خلفيات الناخبين، تبرز بوضوح الفروق في مستوى الخبرة والدراسة والمعرفة، لتصبح عاملاً حاسماً في تحديد ملامح البرلمان القادم، ومدى قدرته على أداء دوره في التشريع والرقابة وصناعة السياسات العامة. فالمرشح الذي يدخل المعترك الانتخابي بخبرة سابقة في العمل العام أو الإداري، يملك القدرة على فهم ديناميكيات الدولة وكيفية إدارة الملفات التشريعية والرقابية، وهو بذلك يمتلك أدوات التعامل الواقعي مع التحديات، لكنه في أحيان كثيرة قد يفتقر إلى التجديد والرؤية المستقبلية إذا لم يمتزج هذا الرصيد من الخبرة بوعي علمي وثقافي متطور. وعلى الجانب الآخر، يظهر المرشح الأكاديمي الذي يستند إلى خلفية علمية ودراسية متعمقة، فيقدم أفكاراً جديدة ورؤى إصلاحية قائمة على البحث والتحليل، لكنه قد يواجه تحدي غياب الاحتكاك المباشر بالمواطنين ومشاكلهم اليومية، مما يجعل بعض أطروحاته أقرب إلى المثالية النظرية. ومن هنا تتجلى المعادلة الصعبة التي تحتاجها مصر في هذه المرحلة، وهي الدمج بين الخبرة العملية والعقل الأكاديمي، لأن الدولة الحديثة لا تقوم فقط على الممارسة السياسية، بل على الفكر والمعرفة والعلم.أما على الجانب الآخر من المشهد الانتخابي، فإن الناخبين أنفسهم يشكلون عاملاً لا يقل أهمية عن المرشحين. فاختيار نائب البرلمان لا يعكس فقط رغبة فردية، بل يعبر عن وعي جماعي وثقافة سياسية تشكل أساس الديمقراطية. هناك ناخب يدرك معنى صوته وقيمته، فيبحث عن الكفاءة والنزاهة، ويتعامل مع العملية الانتخابية بعقلية المشاركة الوطنية، فيوازن بين الشعارات والبرامج، ويختار من يمتلك فكراً وخبرة وقدرة على تمثيل مصالحه الحقيقية. وفي المقابل، هناك من يتعامل مع الانتخابات من منطلق عاطفي أو قبلي أو مصلحي، فيغيب عنه التقييم الموضوعي للمرشح، وتتحول العملية الانتخابية إلى سلوك اجتماعي أكثر منها ممارسة سياسية واعية، مما يؤدي في بعض الأحيان إلى صعود شخصيات لا تمتلك الأدوات الكافية لممارسة العمل النيابي، فتتأثر جودة الأداء البرلماني وتضعف فعالية الرقابة والتشريع.ولعل الفارق بين المرشحين والناخبين من حيث الخبرة والدراسة هو الذي يحدد في النهاية ملامح البرلمان وقدرته على القيام بوظيفته الدستورية. فإذا اجتمع الوعي الشعبي مع المرشح الكفء، نكون أمام برلمان قادر على التعبير الحقيقي عن المواطن، أما إذا غاب الوعي وضعفت الكفاءة، فسنجد أنفسنا أمام مؤسسة شكلية بعيدة عن نبض الشارع واحتياجاته. ومن هنا تأتي أهمية التثقيف السياسي والإعلام الواعي، لأن بناء الوعي الانتخابي لا يتحقق في موسم الانتخابات فقط، بل هو عملية مستمرة تحتاج إلى تفاعل بين مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والمدارس والجامعات ووسائل الإعلام، لترسيخ مفهوم المشاركة المسؤولة التي تقوم على العلم والمعرفة لا على العاطفة والمصالح.إن مصر في مرحلتها الحالية تحتاج إلى برلمان يجمع بين التجربة والفكر، بين صوت المواطن وضمير الوطن، برلمان يضع مصلحة الدولة فوق أي اعتبار شخصي أو فئوي، ويدرك أن التشريع والرقابة ليستا مجرد صلاحيات، بل مسؤولية وطنية تتطلب علماً وخبرة وإخلاصاً. فالقادمون إلى البرلمان يجب أن يكونوا على وعي بملفات الاقتصاد والتعليم والصحة والسياسات العامة، وأن يمتلكوا من الخبرة ما يؤهلهم للتفاعل مع مؤسسات الدولة لا لمجرد المعارضة أو الظهور الإعلامي. وكذلك يجب أن يكون الناخب على قدر من المسؤولية والوعي ليدرك أن صوته أمانة، وأن اختياره الخاطئ لا ينعكس عليه وحده، بل على مستقبل الوطن بأكمله.إن بناء برلمان قوي يبدأ من وعي المواطن قبل صوت الصندوق، ومن عقل المرشح قبل حملاته الانتخابية، لأن الديمقراطية الحقيقية لا تُقاس بعدد الناخبين المشاركين، بل بنوعية الاختيار وعمق الوعي الذي يحرك هذا الاختيار. وبين المرشحين والناخبين، تبقى الخبرة والدراسة والمعرفة هي البوصلة التي تحدد اتجاه الوطن نحو برلمان يعبر عن مصر الجديدة، مصر التي تبني مؤسساتها على الكفاءة والعلم والإخلاص في ظل قيادة سياسية تؤمن بأن الوعي هو أساس الجمهورية الحديثة، وأن بناء الإنسان هو الهدف الأسمى لكل تنمية واستقرار.وفي ختام هذا المشهد الانتخابي، لا يمكن إغفال الدور الحيوي لكل من الشباب والمرأة في تشكيل مستقبل البرلمان المصري. فالشباب هم طاقة الأمة المتجددة، القادرة على إدخال روح جديدة في الحياة السياسية، بما يمتلكونه من فكر حديث وطموح للتغيير الإيجابي، وهم في الوقت ذاته مطالبون بأن يحولوا حماسهم إلى وعي، وأن يشاركوا مشاركة فاعلة لا شكلية، لأن أصواتهم قادرة على صناعة الفارق. أما المرأة المصرية، فهي قلب العملية الانتخابية، إذ أثبتت في كل الاستحقاقات أنها الأكثر التزاماً ووعياً، والأقدر على تقييم المرشحين من منظور وطني وإنساني. فتمكينها من المشاركة الفاعلة، ترشيحاً وانتخاباً، هو ضمانة حقيقية لبرلمان يعكس التنوع والتوازن في المجتمع المصري. إن وعي المرأة والشباب معاً هو صمام الأمان لأي تجربة ديمقراطية ناجحة، لأنهما يمثلان الضمير الحي للأمة، وبهما تكتمل معادلة الوطن التي تقوم على العقل، والضمير، والمستقبل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.