محمد مقلد يكتب | الشرق الأوسط مرآة العالم

0

لم يتسن لي الاطلاع على كتابه الصادر حديثاً بالفرنسية، لكنني استمعت إليه في مقابلة مصورة متحدثاً عن الكتاب، ولهذا سيستند كلامي إلى إجاباته على أسئلة طرحتها عليه محاورته نجوى بركات.
متخصص في اللغة العربية لكنه يتقن الإنكليزية كما لو أنه نشأ في لندن والفرنسية كما لو أنه عاش ودرس في باريس، إلا أن أحوال وطن ساعده على إتقان هاتين اللغتين، تبدلت ودفعته إلى الهجرة والعمل في العاصمة الفرنسية أستاذاً جامعياً، فصار فيها مرجعاً يعود إليه السائلون ووسائل الإعلام ومراكز الأبحاث عند كل حدث، باعتباره إبن الشرق الأوسط ومتخصصاً في شؤونه. هل يشكل هذا سبباً كافياً لترجيح توجهه إلى القارئ الأجنبي والفرنسي على وجه الخصوص قبل احتمال ترجمة الكتاب إلى العربية؟
لاحظت المحاورة أن حضور سوريا وفلسطين كان طاغياً في اهتماماته كباحث في شؤون الأزمات المتناسلة والمستدامة في المشرق العربي، ووعدت في نهاية المقابلة أن تستكمل الكلام عن لبنان في حوار لاحق معه. فهل غاب لبنان حقاً عن الكتاب؟ ربما لأن عمليات الإبادة والتدمير في غزة والمآسي التي عانى منها الشعب السوري في ظل نظام بشار الأسد هي التي طغت على المشهد فبدت أحداث لبنان بعد مضي وقت على لهيب الحرب الأهلية، قياساً على ما تعانيه كل من غزة وقبلها سوريا، بمثابة أعراض جانبية.
يمكن أن نستنتج من سياق الإجابات أن العامل الخارجي هو الذي يحدد، في نظره، مسار الأحداث والتطورات في المنطقة، ولا سيما الصراع على “تركة الرجل المريض” وتوزيعها على الاستعمارين الفرنسي والإنكليزي، وتحميل أوروبا عموماً وبريطانيا خصوصاً تبعات الاستيطان الصهيوني في فلسطين ورسم خريطة بلدان المنطقة بالشراكة مع فرنسا في اتفاقية سايكس بيكو.
أظن، وفي بعض الظن إثم، أن هذه السردية قد تكون استجابة لحاجة خطاب موجه، في الأصل، إلى القارئ الأوروبي، لتذكيره بأن كوراث اليوم في المشرق العربي ناجمة، بحسب وجهة النظر هذه، من خيارات مغلوطة اعتمدها الغرب حين قرر حل المشكلة اليهودية الأوروبية الأصل والمصدر، بترحيل اليهود إلى فلسطين. وقد قضت تلك العملية بتقسيم بلاد الشام وتوزيعها لتكون فلسطين البلد الرابع المعد، بحسب الخطة الاستعمارية، للاستيطان الصهيوني تنفيذاً لوعد بلفور.
لا شك في أن الوقائع التي تبنى عليها هذه السردية صحيحة مئة بالمئة، غير أن منهج قراءتها واستخراج المعادلات منها أغفل أمرين مهمين يمكن أن تبنى عليهما سردية أخرى، الأول هو سياق الأحداث التاريخي والثاني العوامل الداخلية المحلية.
تندرج أحداث التاريخ الواقعة خلال النصف الأول من القرن العشرين والتي تأسست فيها بلدان المشرق العربي وإنشئ الكيان الصهيوني في سياق قيام حضارة جديدة إسمها الرأسمالية عمادها الاستثمار والوفرة والسيطرة على ثروات الطبيعة على الكرة الأرضية وفي أعماق المحيطات و طبقات الفضاء العليا، على أنقاض حضارات سابقة كانت الحروب فيها تقوم على الغزو والغنيمة والريع والأتاوة. لذلك كانت تركة الرجل المريض، ومن بينها المشرق العربي، مادة تنافس بين الدول الاستعمارية.
في هذا السياق التاريخي رسمت الحضارة الرأسمالية، التي اعتمدت الاستعمار وحروب التنافس على التوسع، خرائط المنطقة، بمثل ما رسمت هي ذاتها خرائط بلدان أوروبا، فاستحدثت في المشرق دولاً مثلما استحدثت دولةً إيطالية وأخرى ألمانيةً في ثمانينات القرن التاسع عشر، ومن بعدهما دولاً صغيرة مبعثرة داخل القارة، وقد عالجت في كتابي “أحزاب الله” هذه المسألة بتفصيل دقيق مستنداً إلى مؤرخين أوروبيين من بينهم فرناند بروديل وإريك هوبزباوم، وبينت أن البلدان والدول”المصطنعة” في بلدان المشرق العربي، التي تشبه تلك المصطنعة في أوروبا، هي حاجة للرأسمالية، لكنها مستندة إلى حقائق ووقائق لا ينفيها التاريخ ولا يجافيها، بل أكدتها أحداث القرن الماضي ورسختها تجارب الحروب الأهلية التي زعزعت استقرار هذه الدول لكنها عجزت عن تفكيكها.
العوامل الداخلية كان لها رأي آخر. كل عناصر التفكك متوافرة في كل من لبنان وسوريا والعراق، ويقال كلام كثير عن مآرب إسرائيل في إقامة كيانات طائفية فيها، مسيحية وشيعية وسنية وكردية ودرزية، لتبرر وجود دولة يهودية، لكن هذه الكيانات ظلت صامدة ومتمسكة بوحدة الأوطان فيها، فيما بدت بلدان أخرى غير ذات صلة بالخطر الصهيوني هي المهددة بالتفكك وأبرزها الحروب الأهلية في السودان وحرب العراق ضد الكويت وصراعات المغرب والجزائر وحروب الرفاق في اليمن، وقبلها انفصال باكستان عن الهند وبنغلادش عن باكستان وتقسيم قبرص واتفاق تشيكيا وسلوفاكيا على الافتراق وإعادة الاتحاد اليوغسلافي إلى مكوناته الأولى بقرار من المعسكر الرأسمالي الغربي.
للغرب الرأسمالي أسبابه، صحيحة كانت أم غير صحيحة، في دعم المشروع الصهيوني، غير أن العالم العربي شكل جبهة متراصة ضد الدخول في الحضارة الرأسمالية، اتحد فيها شيوعيون مناهضون للإمبريالية وإسلاميون ينشدون العودة إلى الخلافة وتيارات قومية ناصبت العداء لبعضها وللآخر الإسلامي والشيوعي وكان الجامع المشترك بينها اعتمادها أنظمة وأحزاباً مبنية على الاستبداد ومجافاة الديمقراطية وعداؤها للغرب “المسيحي والرأسمالي والاستعماري”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.