رحيم حمادي غضبان يكتب | مفهوم الثقافة والحضارة

0

الثقافة والحضارة مفهومان متقاربان في الظاهر، لكن بينهما تمايز جوهري في المضمون والدلالة. فكثيراً ما يختلط على الناس الفرق بينهما، فيظنون أن ازدهار المدن، وتطور التكنولوجيا، وتقدم العلوم، هو وحده دليل الرقي الإنساني، بينما يغفلون أن ذلك لا يقوم على أساس متين ما لم يكن مصحوباً بعمق ثقافي روحي يوجّه هذا التقدم نحو الخير والإبداع البنّاء.

فالثقافة تمثل الروح التي تسري في جسد الأمة، فهي مجموع القيم والمعتقدات والعادات والتقاليد واللغة والفنون والآداب التي تعبّر عن هوية الشعوب وخصوصيتها. أما الحضارة فهي الثمرة المادية والمعرفية الناتجة عن تطور الفكر الإنساني والعلمي، وهي تجسيد عملي لتلك القيم الثقافية في ميادين العمران والسياسة والعلم والتقنية. وبعبارة أخرى، الثقافة هي الجوهر، والحضارة هي المظهر؛ الثقافة تغذي الحضارة، والحضارة تعبّر عن الثقافة وتكشف مدى نضجها.

في التاريخ القديم، نجد مثالاً واضحاً لهذا التلازم في الحضارة المصرية القديمة، التي جمعت بين رقيّ ثقافي عميق تجلى في المعتقدات الدينية والفنون والآداب، وبين حضارة مادية عظيمة أبدعتها في العمارة والزراعة والطب والفلك. وكذلك الحضارة الرافدينية في العراق القديم، حيث كانت الثقافة قائمة على الإيمان بالعدالة والنظام الكوني، وهو ما انعكس في تشريعات مثل شريعة حمورابي، التي تعد من أقدم النظم القانونية في التاريخ. أما الحضارة اليونانية، فقد بلغت أوجها حين امتزج فيها الفكر الفلسفي والأدب الراقي مع التقدم السياسي والعلمي، فصارت مهد الفكر الغربي الحديث.

وفي العصور الإسلامية، تجلت أبهى صور التكامل بين الثقافة والحضارة؛ فالثقافة الإسلامية استمدت روحها من القرآن والسنة، ومن مبادئ العدل والرحمة والعلم والعمل، فأنشأت حضارة عظيمة امتدت من الأندلس إلى الصين. تميزت تلك الحضارة بتوازن بين المادة والروح، وبين العقل والإيمان، فكانت الثقافة الإسلامية دافعاً نحو البحث والاكتشاف، لا حاجزاً أمام العلم كما حدث في بعض مراحل التاريخ الأوروبي.

أما في العصر الحديث، فقد شهد العالم تقدماً حضارياً مادياً هائلاً، تجلى في التكنولوجيا والاتصال والعمران، لكنه لم يكن دائماً مصحوباً بعمق ثقافي أو أخلاقي. فبعض الأمم بلغت قمة الحضارة التقنية، لكنها افتقرت إلى القيم الإنسانية والروحية، فصارت حضارتها متقدمة جسداً، ضعيفة روحاً. وعلى العكس، ما زالت أمم كثيرة تمتلك ثقافة إنسانية راقية، لكنها لم تصل بعد إلى مستوى حضاري موازٍ، لأسباب تتعلق بالظروف الاقتصادية والسياسية أو بالهيمنة الفكرية الخارجية.

إن التحدي الأكبر أمام الإنسان المعاصر هو في تحقيق التوازن بين الثقافة والحضارة؛ أي أن يجعل من التقدم المادي وسيلة لخدمة الإنسان لا لاستعباده، وأن تكون الثقافة موجِّهاً للحضارة لا تابعة لها. فالحضارة بلا ثقافة كجسد بلا روح، والثقافة بلا حضارة كروح بلا جسد. والأمم التي استطاعت الجمع بينهما – كما فعلت بعض الدول في عصرنا مثل اليابان التي حافظت على تقاليدها وثقافتها الأصيلة رغم حداثتها الصناعية – هي التي تضمن لنفسها البقاء والازدهار الحقيقي.

وبذلك يمكن القول إن العلاقة بين الثقافة والحضارة علاقة جدلية تكاملية؛ فالثقافة تبني الفكر والقيم، والحضارة تجسّدها في الواقع. وإذا ما اختلّ هذا التوازن، اختلّ البناء الإنساني كله، وفقدت الأمم معناها وهويتها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.