ثائر الناشف يكتب | وجوه الإصلاح الديني

0 419

ظلت قضية الإصلاح الديني في الإسلام، من أخطر القضايا وأشدها أهمية على الإطلاق، فالاقتراب من خط الإصلاح، أشبه ما يكون هنا، بالاقتراب من موقد النار، فالخطر واحد، سواء كان في الاقتراب الشديد، حيث الاحتراق بلهيب الرافضين للإصلاح جملة وتفصيلاً، أو في الابتعاد، حيث الظلام يرخي سدوله ويسدل ستار العتمة.
أياً كانت الحاجة إلى الإصلاح الديني أو التجديد ماسة، فإن تحقيقها ليس بالأمر السهل، لكن الاعتراف بتلك الحاجة، وإن لم تتحقق على المدى المنظور، يبقى أهم بكثير من إلغائها أو عدم الاعتراف بها، لطالما كانت ثمة حاجة إلى الإصلاح، فإن التطورات العالمية الراهنة في حقلي السياسة والاجتماع، كفيلة بدفع عجلات الإصلاح قدماً إلى الأمام، ولو بعد حين.
ويطرح العصر الذي نعيش فيه، أسئلة عدة في سياق الإصلاح الديني من قبيل : لماذا الإصلاح ؟ ومن أين يجب أن يبدأ ؟ وما الغاية منه؟
على ضوء تلك الأسئلة، تتحدد الأجوبة الملازمة لها، من خلال عدة وجوه، يمكن اعتبارها وجوهاً أساسية لأي إصلاح ديني.
الوجه الأول : إصلاح العقل، لطالما كان العقل الإسلامي أسيراً لثقافة الخوف الديني والدنيوي، وأسيراً لثقافة النكوص والتقهقر، فإن التصورات الأولية لإصلاحه، منقسمة بين متشائم ومتفائل، وبكل الأحوال، لا يمكن حصرها ضمن تصور واحد .
فمن بين تلك التصورات المتشائمة، مَن يرى أن إصلاح العقل في الإسلام حرام، والحجة على ذلك، الواقع المر والمهين الذي يعيشه أكثر من مليار مسلم حول العالم، رغم التطور الكبير في عالم التكنولوجيا والاتصالات، إلا أن حال العقل في الإسلام، يسير من سيء لأسوأ .
هذا بالنسبة للتصورات المتشائمة، أما بالنسبة للتصورات المتفائلة، فإن إصلاح العقل لديها، يبدأ من عدة خطوات، أولها، الفصل الكامل بين الدين والدولة، لأنه إذا ما جرى ذلك الفصل المطلوب، فإن المصالح الشخصية لرجالات الدين، باعتبارهم جزء من منظومة السلطة، ستختفي، كما لن تكون التفسيرات الدينية المتنوعة من إمام لآخر، المقياس الوحيد في تحديد الخطأ والصواب، ففي هذا الفصل، يتحقق تحرير العقل من إسار السلطة والدين في آن معاً .
وثانيها، يرى أن إصلاح العقل، إذا كان قد تحقق في المسيحية من خلال العودة إلى الكتاب المقدس، فإنه في المقابل، لابد لأي مسلم من العودة إلى النص الذي يظهر في سورة الرعد ” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ” وذلك كتأكيد نهائي، أن التغيير والإصلاح يبدأ من الذات أولاً .
الوجه الثاني : إصلاح التعليم، ثمة إجماع منقطع النظير، حول أهمية تحقيقه، ويعني إصلاح المناهج الدراسية والتربوية، وعلى الأخص ما يتعلق منها بالتربية الإسلامية والتاريخ الإسلامي، لما لهما من تأثير كبير في تكوين شخصية الفرد المسلم، ولذلك، فإن تحريرهما من إسار الجبر (الإلزام ) وكل ما يحض على العنف، سيؤدي تلقائياً إلى تحرير طالب العلم .
غير أن هذا التحرير وذاك الإصلاح، لا يتم دون توفير المناخ السياسي الملائم، مناخ تسوده الحرية والديمقراطية، كشرط أول وأخير.
وشرط الحرية هذا، نظراً لعدم توفره في عموم المجتمعات العربية والإسلامية، فإن توفره بالحد الأدنى، سيحول دون تحقيق الإصلاح، بكل الأحوال، فالحجة الأولى، أن هدف الضغوط السياسية التي يمارسها الغرب على الحكومات والنظم في الشرق الأوسط، وفقاً لما تمليه مصالحه العليا، ليس الغرض منها، فسح المجال للديمقراطية وفتح الأبواب أمام حرية الرأي والتعبير، بل لغرض التأثير على فحوى العقيدة الإسلامية، من خلال الدفع المباشر نحو إصلاح التعليم .
والحجة الثانية التي يطرحها رافضو الإصلاح، أنه إذا كان الهدف من إصلاح
التعليم، هو العبث بمضامين العقيدة، فما الغاية منه إذن ؟.
الوجه الثالث : إصلاح الخطاب الديني، فمن مقومات الخطاب السليم والقويم، الصدق والأمانة، والأهم من ذلك، سلامة الضمير، فإذا ما فتشنا عن تلك المقومات في الخطاب الديني المعاصر، فإننا سنجد نقيضها، أي الكذب والتدليس، وغياب الضمير، تلك هي الأسباب الرئيسية التي تدفعنا اليوم نحو إصلاح الخطاب الديني .
فعندما يتحدث رجال الدين بأحاديث سياسية لا طائل من ورائها، سوى التزلف والممالأة لأصحاب السيادة والسلطان، فأنهم بذلك يشوهون مقومات الخطاب الديني، لكونهم لا يتحدثون بصفتهم الشخصية العادية، بل بصفتهم الدينية الاعتبارية، وباسم الدين، الأمر الذي يحوّر خطابهم وينقله من مرتبة الخطاب الروحي إلى مرتبة الخطاب التلفيقي .
إن إصلاح الخطاب الديني، يبدأ أولاً بإصلاح الضمير من كل المنافع التي يتحصل عليها نتيجة لخطابه التلفيقي، الذي يتزلف فيه للسلطة، إلى أن تتحقق استعادته واستدعائه الكاملين في جسد الخطاب وروحه.
الوجه الرابع: إصلاح العقائد، وهذا الوجه، من أخطر وجوه الإصلاح، وأكثرها جدلاً ورفضاً، لأن المقصود بالعقائد هنا، القرآن والسيرة، فالاقتراب منهما لدى غالبية المسلمين، خط أحمر.
فالتصور الشائع عن إصلاح العقيدة، هو في الأساس، تصور مشوه ومشوش، والزعم بأن الإصلاح، يستهدف التحريف والتزوير لنصوص القرآن، علماً بأن إصلاح العقيدة المسيحية، بحسب المسيحيين أنفسهم، لم يكن تحريفاً أو تزويراً، بقدر ما كان عودة للكتاب المقدس .
فكل الدعوات الإصلاحية التي ظهرت خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، التقت حول نقطة واحدة، وهي العودة بالإسلام إلى صدره الأول، أي إلى القرآن والسنة النبوية، ومع ذلك لم تجد دعواتهم تلك آذاناً صاغية، كدعوة جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده، وإن وجدت مَن يصغي إليها، فإنها غالت كثيراً في فهمها وتعاطيها مع تلك النصوص، كما هو الحال لدى التيار السلفي، الذي استعاد حضوره وانتشاره على يد محمد بن عبد الوهاب في عموم الجزيرة العربية .
ولا نغفل في هذا المقام، وجوه الإصلاح الأخرى التي حدثت داخل المذهب الشيعي، تزامناً مع انطلاق حركة المعتزلة والاستفادة منها، وذلك على يد مجموعة من المرجعيات والرجالات، وهي إصلاحات ينظر لها بعين من الريبة من المذاهب الأخرى، مثلما تنظر هي الأخرى إلى ما حولها من مذاهب، بذات العين .
وهذا ما يجعل من إصلاح العقائد في الإسلام، أمراً متعذراً، للاختلاف العميق في فهمها، وتقدير المواقف من النصوص وما يتصل بها من تفسير وتأويل. لهذا، إذا لم يكن إصلاح العقائد مستحيلاً، فهو على الأقل، مؤجل حتى إشعار آخر، وربما حتى زمان آخر.

* ثائر الناشف، إعلامي وكاتب ومسرحي سوري.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.