دلور ميقري يكتب | فيلم “ثرثرة فوق النيل” (١-٢)

0 418

قارئ رواية ” ثرثرة فوق النيل ” لنجيب محفوظ، الصادرة طبعتها الأولى عام 1966، لا بد أن تعتريه الدهشة من اجادة مؤلفها في تسجيل تفاصيل الحياة اليومية لمجموعة من مدمني الكيف، كانوا قد اتخذوا عوامة على شط النهر كمكان للقاءاتهم اليومية. فالمعروف، أن أديب نوبل العربي كان بعيداً في حياته عن هكذا جو: لقد كان يعود من الوظيفة إلى المنزل لكي يتفرغ للكتابة، ولا يلتقي أصدقاءه ومحبي أدبه سوى يوماً في الأسبوع بأحد المقاهي.
وأفترض، حَسَب معرفتي بسيرة محفوظ، أن معلوماته عن حياة المدمنين قد استقاها ربما من الأفلام الكلاسيكية المصرية؛ هوَ مَن أسهَمَ فيها مؤلفاً وكاتبَ سيناريو. بل إنه تقلّد ذات مرة منصبَ مدير الرقابة على الأفلام في المؤسسة العامة للسينما، ومن ثم صارَ مديرها العام. لا شك أنه كتب عن ذلك الموضوع في روايات أخرى، مثل ” زقاق المدق ” و” خان الخليلي “. بيد أنّ ” ثرثرة فوق النيل “، كما ذكرنا، شكلت تجربة فريدة في هذا المضمار.
تاريخ الأدب، من ناحية أخرى، يرفدنا بمعلومات عن كتّاب كان الأفيون متعة حياتهم اليومية، وبعضهم نقل تجربته في هذا الشأن على الورق إن كان في باب الرواية أو القصة أو السيرة الذاتية. لعل الأمريكي، بول بولز ( 1910 ـ 1999 )، كان أبرز أولئك الكتّاب، وتعيننا سيرة حياته في مدينة طنجة المغربية على فهم أدبه بشكل جيد. لقد عاش هناك لمدة اثنين وخمسين عاماً، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى وفاته. وبشهادة الكاتب محمد شكري، في مؤلّفه ( بول بولز وعزلة طنجة )، فإن الأدباء الغربيين، وأيضاً غيرهم من الرسامين والموسيقيين، جذبتهم تلك المدينة المغربية بسبب سهولة الحصول على الأفيون ورخصه وأيضاً تساهل السلطات مع المدمنين. وأعتقد أنه أضافَ، بأن العديد من أولئك المثقفين كانوا مثليين أو ثنائيي الجنس.
مع الأسف، لم يتسنّ لي قراءة أياً من روايات بولز الثلاث، بالرغم من بحثي عنها بدأب في خلال زياراتي للمغرب؛ كما أنها غير موجودة بالنت. لكنني قرأتُ سيرته الذاتية البديعة، ” بدون توقف “، وأيضاً جميع قصصه المترجمة إلى العربية. ويجب ألا ننسى، أن بولز معروف في العالم ككاتب قصصي أكثر منه روائياً. من قصصه، التي بقيت في ذهني بكل تفاصيلها، ” علّال “: إنها حكاية تجمع بين الواقعية والفنتاسيا، عن شاب يعيش وحيداً على هامش إحدى البلدات المغربية، لا يفعل شيئاً عقبَ عودته من العمل سوى تدخين الأفيون من خلال السبسي ( غليون خاص بالمدمنين في شمال أفريقيا ). يختلس ذات يوم ثعباناً من رجل قادم من الجبل، كان بضيافته، ثم ما لبثَ أن تقمّصَ كينونة ذلك الحيوان الزاحف في غمرة الدخان الأزرق للكيف.
افترضتُ فيما سلف، أن نجيب محفوظ قد تأثر بالأفلام المصرية عند كتابته لرواية ” ثرثرة فوق النيل “. بعد خمسة أعوام من نشرها، ستُنقل هذه الرواية إلى السينما، بنفس العنوان، من قبل المخرج حسين كمال والسيناريست ممدوح الليثي.

حسين كمال ( 1934 ـ 2003 )، درس فن السينما والمسرح في باريس وروما. لفت إليه الأنطار، كمخرج واقعيّ مبدع، بعدما قدّم فيلم ” المستحيل ” عن قصة لمصطفى محمود، الذي كان آنذاك يعتنق الفكر الماركسي ثم تحول لاحقاً إلى أكثر الكتّاب رجعية في مصر. وها هوَ حسين كمال أيضاً، بعدما أنتج فيلمه الشهير ” البوسطجي “، عام 1968، عن قصة للأديب يحيى حقي، والمعد إحدى علامات السينما الواقعية ـ ينقلب إلى السينما التجارية. ففي العام التالي، أخرجَ فيلم ” أبي فوق الشجرة ” من بطولة عبد الحليم حافظ ونادية لطفي. لكن حسين كمال عاد في ذلك العام نفسه، ليقدم فيلماً رسّخ اسمه كمخرج مبدع؛ ” شيء من الخوف “، بطولة محمود مرسي وشادية. لقد تعمد المخرجُ صنعَ هذا الفيلم بالأبيض والأسود، وذلك كي يتيح المجال للعبة الضوء والظل، التي كانت ضرورية في مشاهده المتسمة بالرهبة والغموض. تلك الأعمال الأربعة الأولى لحسين كمال، اختيرت في قائمة أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية. كذلك، نلاحظ أنها مقتبسة عن روايات لأدباء مصريين. والواقع، أن جميع أعماله ( 27 فيلماً ) مقتبسة عن روايات محلية، باستثناء أربعة لكتّاب سيناريو.
ثم جاء عام 1971، ليقرر حسين كمال انتاج فيلم عن رواية لنجيب محفوظ. ” ثرثرة فوق النيل “، عدّها النقاد نبوءة لكارثة هزيمة الخامس من حزيران، التي حصلت بعد عام واحد من نشر الرواية. إلا أن المخرج تجاهل هذه الحقيقة، بأن جعل الأحداث تعقب الهزيمة. ولعل للسيناريست، ممدوح الليثي، يدٌ في ذلك التزوير؛ هوَ الذي كان معروفاً، آنذاك، كأحد أركان النظام الناصري في حقل الثقافة. وبالطبع، لنا ملاحظات أخرى على الفيلم، سنعرضها في أثناء دراستنا له.
في المقابل، فممدوح الليثي ( 1937 ـ 2014 ) يُعد من كبار صانعي السينما المصرية. لقد أنجز في خلال مسيرته الطويلة حوالي 400 فيلماً، كمنتج وكاتب للسيناريو. شقيقه جمال، كان من تنظيم الضباط الأحرار. وهذا كان سبب ابراز النظام الناصري لممدوح الليثي في المجال الثقافي، حيث تبوأ مناصب هامة في المؤسسة العامة للسينما وأيضاً في التلفزيون. لقد اعتمد عليه الكثيرُ من المخرجين في تحويل الروايات إلى سيناريوهات، لثقتهم في موهبته أو ربما لنفوذه كرجل النظام. وبرأيي، فباستثناء فيلم ” ميرامار “، للمخرج كمال الشيخ، فإن السيناريوهات التي كتبها الليثي عن روايات نجيب محفوظ، كانت غير جيدة عموماً وأساءت لأعمال المؤلّف.
ومن هذه الملاحظات، ندخل إلى دراسة فيلم ” ثرثرة فوق النيل “.

* دلور ميقري، كاتب وفنان تشكيلي من سورية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.