دلور ميقري يكتب | فيلم “ثرثرة فوق النيل” (٢-٢)

0 459

من الملاحظ، هنا أيضاً، اعتماد المخرج للأبيض والأسود في الفيلم، بالرغم من أن عقد السبعينيات كانت فيه الأعمال السينمائية ملونة. المستغرب، أنه تم إقحام مشهد واحد بالألوان، وذلك عند تقديم أغنية ” الطشت قال لي ” للمطربة عايدة هلال. هذه الأغنية، تعد بداية الاسفاف في الفن المصري؛ وبغض النظر عما لو كان المخرج يريد، فعلاً، تأكيد تلك الحقيقة. إذ في المشهد التالي، وعند سؤال الممثل رجب القاضي ( الفنان أحمد رمزي ) من قبل إحدى المعجبات في الاستديو عما ترمز إليه الأغنية، فإنه يجيب: ” إنها تبحث في صعوبة وصول الماء إلى الطوابق العليا في العمارات! “.
المشهد الأول في الفيلم، أعقبَ الشارة التي ترافقت مع أنغام راقصة فيما جوزة الحشيش تتمايل. لنرى رجلاً كهلاً يسير في الشارع، وهو يكلم نفسه في مونولوج طريف وناقد للأوضاع الإجتماعية. إنه أنيس زكي ( الفنان عماد حمدي )، الموظف البسيط في وزارة الصحة، المبتدئ يومه بالدخان الأزرق. ثم ما لبثَ أن طُلب من قبل المدير، لكي يوبخه بالقول: ” هذا التقرير، المطلوب منك، سهوتَ عن كتابته لأن حبر القلم جف وأنت لم تنتبه لأنك مسطول بسبب الحشيش “. بعد انتهاء الدوام، يعود أنيس لمونولوجه فيما كان يذرع الشارع.
ينبغي التنويه بمهارة المخرج والمصور، كون هكذا لقطات في الشارع المزدحم لفنان مشهور جداً، كعماد حمدي، تعدّ مغامرة محفوفة بالمخاطر. إلا أن اللقطات مرت بسلام. لكن بشكل عام، يمكن اعتبار فيلم ” ثرثرة فوق النيل ” من نوع الأعمال السينمائية ذات المكان الواحد؛ وهوَ هنا، العوامة.
المشهد التالي، يدخل فيه رجب إلى الكادر بلقطة معبّرة، عندما يتناول في الشارع قطعة أفيون من يد الموزع؛ وذلك للدلالة على غياب أعين البوليس والمخبرين.. أو تواطئهم. كان رجب إذاك يقود سيارة فخمة، هو النجم السينمائي المعروف. ما عتم أن لمحَ أنيس، فيذكّره بنفسه كجار قديم ثم يقول له أنه سيقوده إلى ” المملكة “. هذا المكان، لم يكن سوى عوامة على النيل، وكان حارسها رجل عجوز ( الفنان أحمد الجزري )، الذي سيتناول قطعة صغيرة من الأفيون من الممثل. فيطلب من الله أن يسامحه. ومثلما سنرى، فإنه الشخص الوحيد المتدين في الفيلم. هذا الموقف الأخير كان علامة، سنتذكرها في نهاية الفيلم.
هناك في صالة العوامة، ما أسرع أن تعارف الضيف مع ثلاثة رجال آخرين: علي السيد ( الفنان عادل أدهم )، كاتب صحفي في المجلات الفنية. وخالد عزوز ( الفنان صلاح نظمي )، كاتب قصصي. أما مصطفى راشد ( الفنان أحمد توفيق )، فإنه مسئول في شركة حكومية. كانوا يعدون لجلسة الكيف، ويناولون الجوزة لبعضهم البعض. يقول علي، أنه يكتب مقالات نقدية عن الأفلام المصرية دون حاجة منه لمشاهدتها: ” لأن جميعها لها نفس القصة! “. ما لبث الضيف أن أدهشهم بقدرته على تدخين الكيف، فيهللون له بصخب. كونه يعيش وحيداً بلا أسرة، فإنهم أقنعوه بأن يقيم في العوامة بشكل دائم. يطلقون عليه لقب ” وزير الكيف ” ويحملونه، فيتذكر كيف كان يُحمل في المظاهرات أثناء الإحتلال الإنكليزي.
في المشاهد التالية، يتوافد الجنس اللطيف إلى العوامة، يصحبهن الممثل رجب. سنية ( الفنانة نعمة مختار )، تصبح سريعاً عشيقة لعلي بالرغم من أنها متزوجة. وليلى ( الفنانة سهير رمزي )، تبدي اعجابها بقصص خالد، وما لبث هذا أن اتخذ منها عشيقة. إنها تخبر الحضور بأن راتبها 17 جنيهاً من عملها بالشركة، مع أن ملابسها واكسسواراتها باهظة الثمن: لقد كانت تحصل على المال من الرجال الأغنياء، الذين تتعرف عليهم؛ أو ما يُدعى بالدعارة المقنّعة. أما سناء ( الفنانة ميرفت أمين )، فإنها طالبة جامعية تحلم بأن تصبح نجمة سينمائية؛ وعن هذا الطريق، يقوم رجب باغوائها. من ضيفات العوامة أيضاً، سمارة ( الفنانة ماجدة الخطيب )، وهي صحافية بنفس المجلة، التي يعمل بها علي. لكنها تختلف فكرياً عنه، وكذلك فإن شخصيتها جادة ومتحفّظة.
مشهد تجديف جريء في الفيلم، عندما يحل عيد الهجرة. يتلقى أنيس التهنئة بالمناسبة من حارس العوامة، فيسأل هذا الأخيرَ عما يعرفه عن عيد الهجرة. ثم يعلّق أنيس بالقول: ” يظهر أن النبي هاجر إلى المدينة والمشركون بقوا في العوامة “. أحدهم، يؤكد أنه ليسَ حراماً التحشيش في يوم عيد الهجرة، لأن التحريم منصوص عليه للخمرة. فيعلق علي ضاحكاً: ” مؤكد أن المشرّع كان حشاشاً مثلنا! “. يقيناً، لو أنّ هكذا حوار وردَ في فيلم مصري بزمننا الحاضر، لتم سوق صانعيه إلى المحكمة.
على أن المبالغة في مشاهد تناول الكيف في العوامة، أساءت للفيلم ( ولرواية نجيب محفوظ بالضرورة ) وبدت كأنما هيَ هدفه. كذلك فأجواء الطرافة والظرف في مجالس الكيف، كانت تجعلها محبذة ومرغوبة للمُشاهد؛ مع أنه المفترض، أن الفيلم يُعرّي واقع مصر من خلالها. وأعتقد، كرأي شخصي أيضاً، أن فيلم ” ثرثرة فوق النيل ” كان فاتحة سلسلة من الأعمال السينمائية، التي نحت نحوه فيما يتعلق بمَشاهد الكيف. ففي أفلام الخمسينيات والستينيات، نجد البطل حينما يقع بأزمة عاطفية أو نفسية، يتجه إلى البار ليتناول كأساً من الويسكي. واعتباراً من عقد السبعينيات، نرى أن البطل المتأزم إما يذهب إلى غرزة الحشيش أو إلى المسجد!
المشهد الأخير من فيلم ” ثرثرة فوق النيل “، كان إلى حد كبير مُختلقاً من قبل المخرج والسيناريست؛ وبمعنى أنه يختلف عن خاتمة رواية محفوظ: كانت عصبة العوامة قد انطلقت في يوم سابق في نزهة بالسيارة، فدهست فلاحة شابة كانت تجتاز الطريق. ثم يتناهى لعلمهم أن الفلاحة ماتت، فيطلب منهم أنيس أن يسلموا أنفسهم للنيابة. هنا، يرد عليه الجميع بالرقص والهتاف: ” الفلاحة ماتت ولازم نسلم نفسنا “. في الدقيقة التالية، يقوم الحارس العجوز بفك السلاسل الحديدية، التي تربط العوامة بالشاطئ، لتسبح هذه رويداً على المياه.
حقاً إن ذلك المشهد كان رمزياً، ويعطي الانطباع عن تيه مصر وغرقها. لكن، هل كان نجيب محفوظ يوافق على هكذا رؤية للنهاية؛ هوَ الذي كان قد كتب ونشر روايته، ” ثرثرة فوق النيل “، قبل عام واحد من حصول هزيمة الخامس من حزيران؟

* دلور ميقري، كاتب وفنان تشكيلي من سورية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.