د. أسامة السعيد يكتب | بأي حال عُدت يا “عيد حقوق الإنسان”؟!
بحلول شهر ديسمبر من كل عام، يستعيد العالم مناسبة بالغة الأهمية هي اليوم العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من هذا الشهر، وهو اليوم الذي أصدرت فيه الأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لتبدأ مرحلة فارقة من تاريخ العالم، وتطوي صفحة دامية عاشتها البشرية نتيجة الحرب العالمية الثانية، والتي خلفت خسائر بشرية يصعب حصرها، تتراواح بين 70 و90 مليون قتيل وعشرات الملايين من المصابين والعاجزين، فضلا عن ملايين أخرى من المشردين، وتدمير عواصم ومدن كانت زاخرة بالحياة، فإذا بها تتحول أمام الصراعات الغربية بالأساس إلى أطلال مدن!!
كان الفصل الأخير من تلك المأساة البشرية هو قمة الدراما الدامية، بإلقاء الولايات المتحدة (قائدة العالم الحر) لقنبلتين نوويتين على مدينتي هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين، لتسدل الستار على الحرب، وتعلن بلاد الشمس المشرقة استسلامها، وتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ العالم، يكتب فيها المنتصرون -كالعادة- التاريخ، ويضعون قواعد اللعبة التي تتضمن لهم بقاء الهيمنة، واستمرارية السيطرة.
هكذا كان المشهد عشية إصدار الأمم المتحدة، المنظمة الدولية الوليدة وقتها، للإعلان العالمي لحقوق الإنسان قبل 73 عاما، كانت الأمال كبيرة، والأحلام خضراء، والعالم يبحث عن الطمأنينة بعد طول قلق واضطراب، لكن حقوق الإنسان التي تمنى الجميع أن تكون بمثابة لمسة حنو على رأس وجسد العالم المثخن بجراح الصراعات والحروب والمجاعات، تحولت بفعل فاعل إلى أداة جديدة لصناعة المعاناة، والتفرقة بين البشر، والتدخل السافر في الشئون الداخلية للدول، وإملاء الدول القوية لإرادتها وتصوراتها الثقافية والفكرية لما تراه حقوقا للإنسان على بقية العالم، حتى ولو كانت مخالفة لثقافات وعقائد وقيم الشعوب الأخرى!
تحولت “حقوق الإنسان” وفق رؤية براجماتية غربية إلى بديل للسلاح والقوة الخشنة من أجل الهيمنة والتدخل في شئون الدول الأخرى المهمة لشبكة مصالحها، واستغلت الكثير من الدول الكبرى الاهتمام العالمي النبيل بإعلاء قيم حقوق الإنسان، لتحولها إلى وسيلة ضغط وورقة من أوراق صناعة سياساتها الخارجية، لا بدافع أخلاقي يسعى إلى مساعدة الدول الساعية بجدية على طريق تحسين حالة حقوق الإنسان السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية على أراضيها، لكن بغرض استعلائي واستعماري جديد، يضفي صفة أخلاقية على حملات الاعتداء، ويكسب العدوان على أراضي وثروات الآخرين مظهرا براقا!!
أصبحت حقوق الإنسان نتيجة ذلك النهج الغربي المراوغ، وبفعل إزدواجية المعايير، وسيلة للضغط على من تستهدفه تلك الدول، فيتم التدخل في شئونه، وإصدار العديد من التقارير المحرفة والمزيفة في الكثير من الأحيان، وقد يصل الأمر إلى حد التدخل العسكري، كما رأينا في حالات مثل أفغانستان والعراق وليبيا.
في المقابل تلتزم تلك الدول الصمت إزاء جرائم لدول وجماعات تنتهك كل ساعة حقوق الإنسان، طالما كانت تلك الدول والجماعات تدور في فلك المصالح الغربية، ولنا في جرائم وانتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان خير مثال!!
اليوم عندما يحتفل العالم بـ”عيد حقوق الإنسان”، عليه أن يتدبر بأي حال يعود هذا العيد، فالدول الكبرى التي ترفع راية الدفاع عن حقوق الإنسان، وتستخدمها أداة طيعة للضغط على آخرين أو التدخل في شئونهم، هي الأكثر انتهاكا لتلك الحقوق، وتاريخ العديد من تلك الدول ليس فوق مستوى الشبهات، وحاضرها كذلك غارق في ممارسات عنصرية وحملات كراهية ضد المختلفين معهم في العرق أو الدين أو اللغة، أو حتى اللون، وهو ما يتنافى ما أبسط معاني ومبادئ حقوق الإنسان، التي تنادي بالمساواة وعدم التمييز.
يأتي اليوم العالمي لحقوق الإنسان، والعالم عاجز عن مواجهة جائحة هي الأخطر في تاريخه، بسبب ذلك التفاوت الظالم في القدرات بين الدول الغنية والدول الفقيرة، فبينما دول تستعد لتطعيم مواطنيها بجرعة ثالثة، لا تجد معظم الدول الفقيرة ما تمنحه لمواطنيها، وتتناسى الدول الغنية ما تتضمنه مواثيق حقوق الإنسان حول التكافل العالمي من أجل الحق في الصحة، بل ويتجاهلون أن تلك الأنانية لن تصمد أمام حركة الوباء التي لا تُفرق بين أبيض وأسود، أو غني وفقير!
أرجو أن يتحلى العالم ببعض العقلانية، وأن يكون اليوم العالمي لحقوق الإنسان مناسبة لإعادة التفكير في الحال التي وصلت إليها تلك الحقوق وذلك الإنسان، حتى لا تتحول حقوق الإنسان بفعل تلك السياسات غير الحقوقية واللاإنسانية إلى “كلمة سيئة السمعة”.