صلاح الدين ياسين يكتب | عن مفهوم “الميتافيزيقا”

0 309

شخصيا أعتبر هذا الكتاب موضوع المراجعة الموسوم ب “مدخل إلى الميتافيزيقا” من صفوة الكتب التي طالعتها في مجال الفكر والفلسفة، والذي تناول من خلاله الأكاديمي المصري إمام عبد الفتاح إمام (1934-2019) موضوعًا فلسفيًا معقدًا بأسلوب مبسط وسلس .
يضيء هذا الكتاب على الدلالة الأصلية للفظة الميتافيزيقا، ويعرض للتطور التاريخي الذي مر به هذا المفهوم، فيحدثنا بدايةً عن نشأة هذا المفهوم بمحض المصادفة، وآية ذلك أن أرسطو الذي يُنسب إليه لم يستعمله، وإنما لم يعرف طريقه للتداول إلا في العصر الهلينستي (الذي امتاز بتدويل المعارف اليونانية ونشرها على مستوى عالمي)، حين انكب أحد رؤساء المدرسة المشائية بروما على نشر وترتيب كتابات أرسطو، فوجد أن بعض البحوث لم يختر لها المعلم الأكبر عنوانًا محددًا، وكانت تقع في الترتيب بعد كتابات أرسطو بشأن مواضيع الطبيعة (الفيزيقا)، ومن هنا جاءت تسمية ميتافيزيقا، أيْ ما بعد الطبيعة.
وقد ارتبطت نشأة الميتافيزيقا عند فلاسفة اليونان القدماء بالأنطولوجيا، والتي تعني البحث في الخصائص الكلية للوجود، أو مثلما قال أرسطو: “البحث في الوجود بما هو وجود”، بمعنى المواضيع التي تتجاوز الظواهر المحسوسة والمرئية، كالوجود الإلهي الذي يُعتبر العلة الأولى للوجود، والنفس، والروح.
كما يقتضي البحث في أصل الوجود وطبيعته التمييز بين الظاهر غير الحقيقي وما وراء الظاهر أو الجوهر حيث تكمن الحقيقة. ومن هذا المنطلق، فإن التفكير الميتافيزيقي لا يكتفي بالمعرفة السطحية التي تزودنا بها الحواس، لأنها تظل قاصرة عن إدراك المعرفة الفلسفية والعلمية الحقة، ما دام أن دورها يقتصر على الوصف والإدراك. ولذلك فإن العقل هو الوسيلة الوحيدة التي تمكننا من استكناه ما وراء الظاهر وملامسة الحقيقة. وهكذا، فإن الخاصية الأساسية للتفكير الميتافيزيقي هي توسله بالمنهج العقلاني والعلمي، بوصفه المدخل الرئيسي لبلوغ الحقيقة.
ولم يطرأ تغيير على المعنى الأصلي الذي خلعه فلاسفة اليونان على الميتافيزيقا طيلة القرون الوسطى، بحيث ظل فلاسفة الإسلام والمسيحية مُخْلصين له. لكنه ما لبث أن شهد تطورًا نوعيًا في الفلسفة الحديثة على أيدي رموز عصر التنوير، كلوك، وهوبز، وكانط، وديكارت، الذين نقلوا التفكير الميتافيزيقي من طور الأنطولوجيا إلى طور الإبستمولوجيا أو نظرية المعرفة، إذ طرحوا جملة من الأسئلة بخصوص مصدر المعرفة (أهو الحواس والتجربة أم العقل أم هما معا؟)، ناهيك بطبيعة تلك المعرفة وحدودها (هل الإنسان مهيأ لمعرفة كل شيء، أم إن قدرته على إدراك المعرفة محدودة بحدود العقل البشري؟).
وصولا إلى الفلسفة المعاصرة، حيث ستعمل الفلسفة الوجودية التي نشأت في القرن التاسع عشر، ومن أبرز روادها سارتر وهيدجر وكامو ونيتشه، على تطوير موضوعات الميتافيزيقا من خلال الانتقال من دراسة الوجود الكلي المجرد وغير المحسوس إلى دراسة الوجود العيني، المتصل على وجه التحديد بالذات البشرية والمشكلات المرتبطة بها كالحياة والموت.
وتصدر الفلسفة الوجودية المعاصرة من مبدإ أساسي، وهو مركزية الفرد باعتباره ذاتًا متفردة unique لا مثيل لها، ومن ثم فهي تميز بين الذات الحقة التي تصنع ماهيتها الخاصة، حيث تفترض الوجودية أن وجود الإنسان يسبق ماهيته، بخلاف ما تقول به النزعات القدَرية والحتمية من جهة، والذات الزائفة التي تذوب في الكلي وتنساق وراء ميول وتقاليد الجماعة، مما يُفقدها هويتها المتفردة وأي معنًى لوجودها من جهة ثانية.
وفي الفصل الختامي للكتاب، يعطي المؤلف نماذج للمشكلات الميتافيزيقية، كالأدلة على وجود الله، بحيث أشار إلى انقسام الفلاسفة بين فريق اعتمد الأدلة العقلية، باعتبار أن العقل هو طريق الإيمان كما قال بذلك ديكارت، وفريق آخر انحاز إلى الأدلة اليقينية، بما أن الإيمان يُعد مسألة قلبية خالصة، وأن العقل قد يقود إلى نقيض الإيمان، بحسب رأي هذا الاتجاه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.