محمد فياض يكتب | زلزال في مدن الذاكرة

0 232

مِن أعظم الأسباب التي جعلت الإنسان يترأس الهرم الوجودي للذوات الحية في القمة الأولى بلا منازع أو منافس هو التطّور الجبّار لجهازه العصبي وقُدرته الفكرية والعقلية الفاتنة بالشكل الذي جعلهُ قادر على إدراك الأشياء سقيمها وسليمها من دون قوى خارجية تُبرمج قراره فلا مُخيرٌ ليفعل ولا مُسيَرٌ ليؤمَر .
فجُعِل زمام اموره بيده ليكون مُستقلاً في قراره تعظيماً لهذه الملكة العظيمة والهبة الربانية البديعة ( العقل).
ولشدة تطور هذا الجهاز المُعجِزة أخذ يحفِظُ جُلَّ المواقف والاحداث في دورِ صغيرة متجاورة تتبعثر في احياء متقاربة لتُشكِل مدينة تُسمى (الذاكرة).
ويبقى الإنسان على مر الزمان وتتابع الأيام يسير في هذه المدينة سيراً في اللازمن.
في الحقيقة إنَّ القوانين الكونية وحتى الفيزيائية منها تكادُ تكون معدومة في أزقة المدينة ، فيحدثُ أن يسيرَ أحدهم عشرات السنين في بضع ثواني أو يزور البلدان والمُدُن وهو في موضعٍ واحد من دون أن يُحرِّكَ قدم .
إلّا إنَّ هذه البيوت المُتجاورة تُهدمُ أحياناً نتيجة لتعرضها لظواهر جيولوجية دورية بين الحين والأخر.
فتكون المناطق المتضررة من المدينة التي تحوي على بيوت خاوية أو تلك المُشيدة عامودياً بالشكل الذي يجعلها مُعرضة للسقوط بنسبة اكبر من تلك المُعتدلة في تركيبها .
في المصطلح الإنسانوي( Humanism) تُسمى هذه الظاهرة بفقدان الذاكرة أو النسيان .
تلك الموجة التي تُزيح الكثير من العُقد والأثقال عن كاهل الإنسان لكي يستطيع الأستمرار والسير بسعادة في هذه الحياة .
الأمر الذي يحقق له السكون والعزم على البدأ من جديد بعد كل سقوط .
نعم ، إنَّ النسيان من أعظم النعم التي مُنِحَتْ للبشرية.
فلولا النسيان لتوقفت عجلة الحياة عن سيرها ولأغلق كل امرئٍ داره وغرق في أحزانه واخطائه فلا أحد يغفرُ لإحد خطأه وزلاته ولا لنفسه أيضاً.
إنَّ التمتعُ بذاكرة حديدية تُحصي كل شيء بزمن واحد فتكون جميع الأحداث وليدة اللحظة لهو ثقل يمنع الإنسان من التقدم والمضي بسلام في هذه الحياة .
لذا لا بُدَّ لك من زلال يُحطم الديار المُظلمة والمليئة باللحظات القاسية والإنكسارات القديمة كُلما شُيدّت ديار مُشابه لها .
فالتناسي يعني العزم على عدم زيارة اروقة المدينة ليلاً والسير في شوارعها الكئيبة وترميم النفس بعد كل أنكسار وخيبة سعياً لحياة سعيدة وعيش سليم.
تَنسى لتُصبِحَ صامِداً…
تَنسى لِتبدأَ مِنْ جديد …

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.